0:00
/
0:00
Transcript

مساحات أعادت تشكيل علاقتي بالمعرفة

مساحة ١: الغورية، مصر القديمة - سيلاس.

خلال سنواتي الأولى بالقاهرة، حاولت، مرارًا وتكرارًا، أن أرضي فضولي الجمّ تجاه المدينة الكبيرة التي أعشقها. كنت أعلم أنها تنتظرني وأنها ستكون كما تأملت وحلمت أنا: سوف أتجول بين شوارعها لأحظى بقصة حب بين شوارعها القديمة وأدرس في مصر القديمة. لم أكن أعرف من سأحب أو عن ماذا سأتعلم بعد.

من مقر سيلاس أمام مسجد الرفاعي

في نهاية عامي الثاني في المدينة، صادفت منشورًا على منصة "فيسبوك" عن مركز القاهرة للعلوم الحرة والآداب – سيلاس. شعرت أنني أنتمي لهذا المكان، هكذا وبدون أي مقدمات، وأن عليّ أن أجرّب الالتحاق به. بعد الكثير من البحث والمشاورة والتحايل على ميزانيتي المحدودة، التحقت بالفعل بأحد الفصول غير الرسمية. لم يكُن الموضوع الذي اخترته قريبًا مني، لكنني أردت أن أعيش التجربة فقط، ومن ثم حان موعد التقديم لعامٍ جديد، فالتزمت معهم هذه المرة بعامٍ دراسيٍّ كامل (في الفترة بين عامي ٢٠١٥ و ٢٠١٦).

وجدت نفسي في قاعةٍ صغيرة، يجتمع فيها أشخاص يتحاورون بالإنجليزية حول السياسة والفن والمجتمع. أذكر جيدًا أن الجلسة الأولى تزامنت مع حادثة شارلي إيبدو في فرنسا، وكانت المُيسِّرة عائدة لتوّها من هناك، فدار حوار بيننا حول دور الإعلام وكيفية توجيهه للرأي العام.

ما جذبني في سيلاس أن التعليم كان مختلفًا تمامًا: العلاقة بين المعلم والتلميذ مختلفة، فلا سلطة معرفية عُليا لأحدهما على الآخر، بل كلاهما جزء من التجربة القائمة على المساواة والمشاركة، وهي علاقة تهتدي بنموذج ورد في كتاب "المعلم الجاهل". 

كان في الفصل زميل (Fellow) يقترح موضوعًا للنقاش، ومعه شريك يُساعده في التنظيم. لم يكُن الهدف الوصول لإجابات نهائية، بل تبادل الأفكار، قراءة نصوص، ومن ثم العودة لمناقشتها معًا. بُنيت سيلاس على مبدأ التجربة والمساواة في التجربة التعليمية، وأصرّ هنا على أن أسمّيها تجربة بدلًا من "عملية"، وذلك لأنها كانت تنطوي على جوانب أخرى خارج مكان الدراسة.

على مدار عامٍ كامل، تنقّلت بين موضوعات متعددة: العلوم الاجتماعية، الأنثروبولوجيا، الفن، الثقافة، الجندر، وحتى قراءة كتاب لأفلاطون. وكانت فصول الفن هي الأقرب إلى قلبي. 

كيف غيَّرت الدراسة "الحُرّة" مفهومي عن تكوين المعرفة؟

كفتاة "متعددة الشُّغُف"، كنت دائمًا أبحث عن طريقة للتعلُّم لا تشبه النظام التعليمي التقليدي، الذي ترك بداخلي ندوبًا لا تُمحى، فلدي حقد كبير على النظام التعليمي بدرجاته وكوابيسه التي ما زالت تُطاردني حتى هذه اللحظة. لهذا السبب، ظللت أبحث عن طريقة تعلُّم تنسجم مع قيمي ولا تخلق لي صدمة جديدة. وجدت في سيلاس هذه المساحة الحُرّة التي تُشبع فضولي: مكان قائم على التفكير والاختبار والنقد والتحليل، لا على الحفظ والتلقين.

تعلَّمت أن المعرفة لا تأتي من الكتب وحدها، بل من البشر، من النقاشات، من الأماكن التي تفتح لنا طرقًا مختلفة لرؤية العالم. أدركت أنني أحب العملية أكثر من النتيجة. كنت مؤمنة أن كل نقاش وكل اختبار، حتى لو لم يصلا إلى نهاية، فإنهما حتمًا يضيفان شيئًا لذاتي.

ومن هناك، بدأت ألتقط الصور لأعبِّر عن مشاعري. أذكر أن مُدرِّسة الفنون "يفون" لاحظت هذا الاهتمام وقالت لي " لديك عين فنية، استمري". وقد دفعتني تلك العبارة البسيطة خطوات للأمام.

تعلمت في العام الذي قضيته في سيلاس أن أُركّز على الأفكار بدلًا من الانشغال بالفوارق الاجتماعية أو الشكلية. لم يكُن يعنيني أننا مختلفون، بل كنت أحتفي بالاختلاف وأحترم من يخالفني الرأي.

وبمرور الوقت، أثَّرت هذه التجربة على اهتمامي بقضايا أكبر. عندما انتشرت صورة الطفل السوري إيلان على شواطئ تركيا، تطوعت لتعليم زملاء مهاجرين. ومن خلال تجربتي معهم، تعلمت أن الوطن ليس الأرض بل هو الأمان، فلن أنسى تعليق أحدهم، حين قال "الأرض خُلقت عشاني، مش أنا اللي اتخلقت عشانها"، وردَّ آخر عليه من منظور ديني قائلًا "من مات من أجل أرضه فهو شهيد". 

لم تكُن لدي أي خطط لمواصلة الدراسة، لكنني أردت أن أخوض التجربة، فوقعت في غرام النقد والتحليل ومشاركة الآراء، وتصالحت مع غياب آلية لتنظيم المعلومات. ربما أكون قد أدركت خطورة هذا الأمر لاحقًا، إذ سبَّب لي إحساسًا قويًا بالـ FOMO (الخوف من تفويت المعرفة)، ولكنني فخورة بقلقي الدائم حول ما يحدث في العالم. 

لو عاد بي الزمن، لكرَّرت هذه التجربة بلا تردد. لم أجد تجارب كثيرة تشبهها، لكنني واصلت البحث عن مساحات أصغر للتعلم والنقاش. وعلى الرغم من أنني لم أكمل دراسة أكاديمية طويلة المدة، إلا أنني حصلت على ما هو أثمن بكثير: تجربة فتحت لي آفاقًا مختلفة للمعرفة والنقد. 

(وجب التنبيه هنا أن هذه الأفكار تُعبّر عن رؤيتي الشخصية ومنظوري للمكان في إطار زمني معين. قد يكون لبعض زملائي رأي آخر في تلك التجربة، وهو رأي أقدره وأحترمه.)


مساحة ٢: الشلاتين - جنوب مصر. 

التقطت هذه الصورة في جنوب مصر/ جبل علبة عام ٢٠١٩

أَخي لَن تَنالَ العِلمَ إِلّا بِسِتَّةٍ

سَأُنبيكَ عَن تَفصيلِها بِبَيانِ

ذَكاءٌ وَحِرصٌ وَاِجتِهادٌ وَبُلغَةٌ

وَصُحبَةُ أُستاذٍ وَطولُ زَمانِ

الإمام الشافعي 

قررت تسجيل مشاعري عن التجربة عوضاً عن الكتابة عنها:

0:00
-8:03

Leave a comment


مساحة ٣: جولة مشي مع الأشجار

لا أستطيع أن أقاوم أي جولة مشي، وخصوصًا لو كانت في شوارع المعادي. فما بالك لو كانت جولة عن الأشجار؟

"في شجر ممكن أفديه بروحي، وشجر ماعنديش أي تعاطف معاه."

قالها المرشد أثناء الجولة، وهو يشرح أن قيمة بعض الأشجار لا تُقاس بشكلها الجميل فقط؛ فبعضها قد يكون مؤذيًا للبيئة وللأشجار الأخرى، بينما تُقدم أنواع أخرى فائدة عظيمة ما يجعل بقاء هذه الأشجار ضروريًا لمحيطها الطبيعي.

خرجنا جميعًا متفقين على رفض القطع الجائر للأشجار، لكنني خرجت أيضًا برؤية مختلفة: الأشجار ليست مجرد خُضرة تُزيِّن المكان، بل هي شبكة حيّة تتفاعل مع بعضها البعض ومع بيئتها.

ربما حُبّي للون الأخضر والمعادي كمساحة أقرب للطبيعة هو ما جعلني أشعر أن هذه الجولة لم تكُن مجرد نزهة، بل بداية رغبة في التعلّم أكثر عن الأشجار وكيفية اندماجها مع محيطها.

صورة جولة الأشجار على منصتنا على انستجرام

تابعونا على انستجرام

Loading...

Discussion about this video

User's avatar

Ready for more?