في بداية العام الجاري، سافرت إلى جنوب إفريقيا متجهةً إلى مدينة كيب تاون، إذ كنت قد قررت قضاء عيد ميلادي الثالث والثلاثين في دولة أخرى غير مصر في محاولة مني للاستمتاع به بشكل مختلف.
لم تكن هذه المرة الأولى التي أسافر فيها خارج البلاد، ولكنها كانت أول مرة أسافر فيها وحدي دون مرافقة مجموعة من المسافرين ولأغراض لا تتعلق بالعمل أو التدريب. للمرة الأولى في حياتي، انشغلت بمهام من نوع مختلف مثل كيفية وضع جدول للاستمتاع بالحياة على مدار أسبوع، وقد كانت تجربة عظيمة تعرفت فيها على أشخاص جدد ومختلفين بدون قيود.
تجمع تلك المدينة الرائعة بين كل ما أحبه في الحياة: تاريخ عظيم، تنوع ثقافي واضح وقوي، حضور قوي للفن على جدرانها وفي معارضها ومتاحفها. كانت مدينة تشبه أوروبا في هيئتها المعمارية، وعلى بعد كيلومترات قليلة منها، يقع جبل الطاولة وهو أحد عجائب الدنيا السبع ومن ثم تخطو خطوات بسيطة منه لتجد شواطئ مفتوحة على المحيط الأطلنطي من حولك.
في طريقك لزيارة أحد معالم المدينة على متن أحد باصات الهوب اون هوب اوف Hop-on Hop-off bus، لربما تسمع صوتاً بلغتك المفضلة في المذياع المسجل يُعرّفك عليها. وحين تقترب من أي من شواطئها المفتوحة للجميع بلا تمييز، تتأكد بأنك في أكثر المدن سحراً، فهنا على شاطئ كليفتون - الأكثر شهرة وخصوصية- لن تجد أي مصور باباراتزي وربما تجد تشارليز ثيرون، أو تريفور نوا أو ليوناردو دي كابريو يحتسون القهوة على أحد المقاهي بجانبك دون إحداث أي جلبة.
ما بين التاريخ والفن والحضارة والثقافة والجبل والشاطئ، وجدت صورة متكاملة عن مكان قد أرغب في العيش فيه فيما بعد، وهي فكرة قد تراود أي سائحة مثلي تجد كل هذا الجمال في المدينة في أيام قليلة دون التعمق في الجانب المظلم منها. كانت لي محطات عدة في تلك المدينة التي بقيت فيها لمدة ستة أيام، شاكرة جميع مدونات pinterest التي ساعدتني على التخطيط للزيارة من خلال الاستمتاع بتجارب أشخاص لم أقابلهم أبداً.
في إحدى محطاتي في كيب تاون، نصحتني صديقتي العزيزة لبنى بحجز زيارة لجزيرة روبن Robben Island الشهيرة، والتي سجن فيها نيلسون مانديلا لأكثر من 18 عاماً من سنوات سجنه التي بلغ مجموعها 27 سنة. ترددت قليلاً في البداية، فها أنا مستمتعة ما بين الشاطئ والجبل، هل عليّ أن أزور هذا السجن والمنفى التاريخي الآن؟ بيد أنني أثق في الحقيقة بترشيحات لبنى، فقررت إعادة رسم جدولي وتخصيص نصف يوم لروبن ايلاند، وإن كانت الزيارة ثقيلة، فسأقضي ما تبقى من اليوم إما على الشاطئ أو في أحد المولات.
ركبنا عبّارة كبيرة من الشاطئ إلى الجزيرة المتواجدة في المحيط، والتي أصبحت بعد أكثر من ثلاثين عاماً متحفاً يروي للزائرين قصص بعض سجنائها السابقين، والذين تم تعيينهم في المتحف فيما بعد. صُمِّمت الزيارة بشكل استثنائي، فقد تسلك لدخول السجن مع المرشدين نفس الطريق الذي سلكه المساجين، فتتعرّف على الجزيرة ثم على السجن نفسه، ثم تخرج منه ولربما تذكر في تلك اللحظة من التاريخ آخر رجل خرج من هذا السجن للأبد في عام ١٩٩١.
عندما دخلت تلك الجزيرة، توقعت أنني سأسمع الكثير عن نيلسون مانديلا، ولكن الحقيقة أنني سمعت عن أسماء لم يذكرها التاريخ كثيراً، بل وقد يكون تأثير هؤلاء الناس أكبر وأعمق بكثير. أكاد أجزم أنني قد التقيت بالمرشد السياحي الأكثر سحراً على الإطلاق في تلك الرحلة، فلا أذكر بأنني استمتعت في حياتي بسرد أي شخص مثلما استمتعت بطريقة سرده، لذا قررت أن أروي لكم قصة رواها لنا هذا الرجل وحفظتها منه لعمق تأثيرها فيّ.
يحدثنا المرشد السياحي من جنوب أفريقيا عن تلك المرة التي أحدث فيها شخص تغييراً في التاريخ، عندما دفع حياته ثمناً لصوته وظل اسمه مخلداً رغم أن قلة قليلة من الناس تعرفه!
في ستينيات القرن الماضي، كانت هناك سيدة لم يُذكر اسمها سُرقت منها حقيبتها، وكانت تحتوي على بطاقة الاجتياز المفروضة على كل مواطن أسود أثناء فترة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كواحدة من السياسات التي تؤدي إلى تقييد حركة السود واحتقارهم.
اتجهت السيدة لمركز الشرطة لكي تبلغ عن سرقة حقيبتها وبطاقة الاجتياز، وذلك لتتجنب الوقوع في أي مشكلة. في طريقها للمركز، أوقفها شرطي وطلب منها أن تريه بطاقتها، فأخبرته بأنها سُرقت وهي في طريقها للتبليغ عن الأمر. لم يُعر الشرطي أي اهتمام لتبريرها وألقى القبض عليها لتتم إحالتها إلى المحكمة التي أمرت بسجنها لمدة تسعة شهور.
في الوقت ذاته، كان هناك رجل قد حاز على اهتمام بعض المواطنين بفضل طلاقة لسانه، ويُدعى روبرت سبوكوي الشهير بالبروف. في ظل تفاقم شعور الناس بالقهر لما يحدث يومياً من ظلم بيّن بسبب قوانين الفصل العنصري، نظم سبوكوي مسيرة اعتراضاً على قانون المرور، ودعا فيها أهل مدينته ليمشوا بشكل سلمي إلى مركز الشرطة بدون بطاقة الاجتياز ويعبروا عن اعتراضهم على ذلك القانون بشكل سلمي.
قبل انطلاق المسيرة، أخطر سبوكوي الشرطة بأن هناك مسيرة سلمية ستحدث منعاً لأي مشادات وحقناً للدماء. وفي يوم ٢١ مارس عام ١٩٦٠، انطلقت مسيرة للمركز شارك بها آلاف المواطنين بدون بطاقة الاجتياز. على الرغم من سلمية المسيرة، تم إطلاق النار على المتظاهرين عند اقترابهم من مركز الشرطة دون تحذير أو إنذار، وقد خلّف ٦٩ قتيلاً وآلاف المصابين في يوم دموي وحزين أطلق عليه "مذبحة شاربفيل".
كان التعبير الأقوى من المتظاهرين في ذلك اليوم هو التالي:
لقد أطلقوا علينا النار بدم بارد، دون إنذار.
تعتبر مذبحة شاربفيل من أهم أسباب التحرر العنصري في جنوب أفريقيا فيما بعد. كان روبرت سبوكوي يعمل آنذاك مدرساً في مدرسة حكومية، وكان رئيساً ثورياً بارزاً ومناهضاً للفصل العنصري في جنوب أفريقيا وعضواً مؤسساً في مؤتمر الوحدة الأفريقية (بّي إيه سي). كما كان أول رئيس للمنظمة أثار غضب الجميع لقوة كلمته وتأثيرها، والتي نتج عنها خروج الآلاف للاعتراض في الشارع يوم المذبحة. اعتقلت الشرطة سبوكوي وحكم عليه بالسجن الانفرادي لمدة ثلاث سنوات وألزمته بعدم التحدث لأي مخلوق.
بعد ثلاث سنوات، تم تجديد حبسه بعد تشريع قانون جديد من الحزب الوطني سمي فيما بعد ببند سبوكوي، لأنه لم يُنفَّذ على أي شخص آخر، وكان هذا البند يتيح تجديد حبس المعارضين السياسيين لأجل غير مسمى.
نُقِل سبوكوي لسجن روبن ايلاند، حيث أمضى في الحبس الانفرادي في بيت خاص به بالجزيرة ست سنوات اعتقل خلالها ثوار آخرون في نضال التحرير مثل نيلسون مانديلا، وجونسون ملامبو، وجون نياثي بوكيلا وكثيرون غيرهم. أثناء سجنه في روبن ايلاند، يُقال بأن سبوكوي حظي بمعاملة خاصة، إذ سُمح له بقراءة الجرائد والمجلات وارتداء ملابس خاصة غير ملابس السجن مع إلزامه بعدم الحديث لأي شخص باستثناء شخص واحد كان على تواصل معه لكتابة سيرته الذاتية وهو صديقه الصحفي بنجامين بوغروند، والذي قام بنشر سيرته تحت عنوان
how can a man die better
كيف يموت الرجل بشكل أفضل.
بعد مرور ست سنوات، تم إطلاق سراح سبوكوي من سجن روبن ايلاند ووُضع تحت الإقامة الجبرية في بيته، ولم يُسمح له بالتحدث مع أكثر من أربعة أشخاص في محيطه حتى موته عام ١٩٧٨. عاش سبوكوي صاحب التأثير الأكبر في البلاد والمنسي تاريخياً ما بين سجن انفرادي وعزل عن العالم بإقامة جبرية لأكثر من ١٨ سنة ، وذلك لأنه كان قادراً على إحياء صوت عشرات الآلاف بتأثيره ذات يوم.
-
انتهت قصة سبوكوي هنا، وربما تتساءل لماذا كان لتلك القصة كل هذا التأثير علي. ربما لأنني من جيل قد رأى التأثير بشكل مختلف، رأى تأثيراً يحمل في طياته إنجازات وهمية قصيرة المدة، قد تُشعرك بأنك راض عن يوم وليس عن حياة بأكملها. أنا من جيل لربما حاول إعلاء صوته ولم يستطِع، ومن ثم نجد في التاريخ قصصاً لأمثال سبوكوي الذين كانوا سبباً لإطلاق شرارة التغيير الذي تأثرت أنا ايضاً به عندما سمعت عنه، فصوتي كان محل انتقاد كثيرين، من بينهم أنا شخصياً. كيف للإنسان أن يصبح على يقين بأنه على الطريق الصحيح وأن ما يحركه الآن هو المحرك الحقيقي للتغيير؟ أقصد بالتغيير هنا أشياء كثيرة لا تقع في الجانب السياسي فقط (بأمن نفسي)! لكن حقاً في كل جوانب الحياة.
في رحلتي لكيب تاون، كانت هناك مواقف عدة تستحق الذكر. وفي أثناء العمل على مشروع ثقافي جانبي كنا قد سألنا أنفسنا سؤالاً: من هو الشخص الذي تحب أن تلتقي به من التاريخ؟ لو أتيحت لي الإجابة الآن، لكنت تخيلت بأن اللقاء مع سبوكوي ممكن و سأسأله: هل كان الأمر يستحق أن تظل صامتاً لما تبقى من حياتك وانعزالك؟ هل كان يستحق أن يكلفك حقك الإنساني في الحديث مع الآخرين؟ كنت أحب أن أعرف إن ظل محتفظاً بنفس الدافع الذي أيقظ شعباً بأكمله حتى نهاية حياته أم كان له رأي أخر!
وأنتم من هو الشخص الذي تحبون أن تلتقوا به وتجروا مقابلة معه؟
—
المقالة من كتابة مي خالد وتحرير لينا شنك.
*تم التحقق من أصول القصة تاريخياً، ولكن بعض التواريخ قد تكون غير دقيقة، لذلك وجب التنويه.
جميل جدا المقال يامي، دايما بافكر في الناس دي اللي اساميهم يعتبر اتطمست ومانالوش ضوء او احتفاء وممكن عاشوا وماتوا في حزن وصمت، مقتنعة ان اللي عملوه كبير جدا وفي الصورة الكبيرة هو عملاق بس يمكن في حياتهم الصغيرة كان صعب وحزين