السّاعة تُشير إلى السّادسة صباحًا وإحدى عشرة دقيقة، أترشّف قهوتي في القطار، مقعدٌ حذوَ النّافذة، شعاعُ الشّمس يتسلّل ويُقبّل وجنتَيّ، أستشعر دفءَ القُبَل على خدّي، ورائحةُ القهوة تُدغدغ قلبي، أتأمّل ملامح المدينة والقطارُ يُودّعها.. أشعرُ بالحياة في هذه اللّحظة.
***
في آخر العشيّة، السّاعة الخامسة مساءً، وهو يتمشّى رويدًا في الحيّ، أصغى إلى حفيف أوراق الشّجر، رأى نورَ إضاءة الشّارع يرقص مع حركات الهواء… استمع إلى صوت فرقة ابن عربي تُغنّي ”وعِشْ خالياً فالحُبّ راحتُهُ عَنا” شعرَ بالحياة.
***
السّاعة الثامنة ليلًا، خرجتْ من البيت ومعها صحنٌ مُغطّى بورق الألمنيوم… إنّها تعرف أنّه يقبع أمام هذا المتجر، وجوهُ المتسوّلين في الحيّ معتادة، أعطته وجبةً ساخنة كانت قد أعدّتها في البيت، أخذها وذهبت، لم تبتعد كثيرًا، بقيتْ تسترقّ النّظر إليه وهو يفتحها وابتسامةٌ تعلو محيّاه، تبسّمت هي الأخرى، شعرتْ بالحياة…
***
تعالت أصواتُ المتظاهرين في الحرم الجامعي، خرج من الباب الرّئيسيّ شابٌّ عشرينيّ يصيح بأعلى صوته: ”يحيا العدل، ستُلغي الجامعة تعاملاتها مع شركات المقاطعة“. صفّق الطّلبة وزغردت البنات.. تبسّم، ثمّ اعترته نشوةٌ لم يعهدها من قبل، شعرَ بالحياة.
***
وأنت، متى كانت آخر مرّة شعرتَ فيها أنّك حيٌّ حقًّا؟
كلّ هذه الأمثلة الّتي سردتها تتّفق على شيءٍ محوريّ… وهو تغيّر مفهوم الوقت في لحظة استشعار الحياة… تتلاشى في تلك اللّحظة قوانينُ الفيزياء، يغدو كلّ شيءٍ بطيئًا وهمومُ الدّنيا ضئيلة، تكبر الآخرة وتصغر الدّنيا، لحظةُ صفاءٍ مع الرّوح، لحظةُ تناغمٍ مع موسيقى الطّبيعة، لحظةُ انتصار النّور على الظّلمات، لحظةُ يقينٍ بأنّ المعنى من حياتنا هو أن نكون مع ذواتنا في انسجام، وأن نعمل ما ينفع الناس.
متى شعرتَ أنّك حيٌّ حقًّا؟ أنّك موجود، تُقاوم، تُكافح،
تُحاول جاهدًا إعمار الأرض وإقامة العدل فيها، حاضرًا مع قوانينها وطبيعتها بكلّ حواسك؟
إنّها لحظةٌ ينبض فيها قلبك بالحياة ويضخّها في كامل الجسد… لحظةٌ رقص فيها قلبك وعقلك وروحك على نفس الإيقاع.
السّاعة تُشير إلى الواحدة وخمس عشرة دقيقة صباحًا، بعد يومٍ طويلٍ في رحلةِ عمل. أُنهِي آخر سطور كتابة هذا المقال على تطبيق Notes في هاتفي المحمول… تعبٌ ممزوجٌ بحبّ الكتابة، شغفٌ لا يأبى أن يتخلّى عنّي رغم سنين دراسة الأعمال الطّوال والعمل المستمرّ… أقرأ مقالي آخر مرّة قبل نشره، أشعرُ بالحياة.