ثلاث رحلات إلى المغرب لا تكفي!
جلست في المقعد الأمامي في سيّارة التاكسي، لأكون قريبةً من المكيّف في هذا النهار الحار من شهر أيّار في مدينة مراكش المغربية، ولأحاول مقاومة الدوار الذي يصيبني بعد ساعاتٍ من السفر. معي هاتف غير ذكي على الإطلاق، لا يعترف بالشبكة العنكبوتية، ولا يقيم وزناً للتواصل الاجتماعي خارج إطار مسائل “الحياة والموت”!
لم أصدق أنني أصبحت في المغرب، أجول في شوارع مراكش، وأصل إلى ساحة الفنا التي قرأت عنها. كانت ساحة الفنا مقصداً للحكواتية الذين يأتونها باستمرار لرواية الحكايات على مسامع الجمهور الجالس في حلقات حولهم، وهي اليوم تجمع السحرة، وقارئي الفال، والحنايّات، وسائقي الحناطير، والراقصين الشعبيين الذين لا ينطبق عليهم مثل “الفرجة ببلاش” حيث يطالبون بأجرة اختلاس النظرة على رقصهم، وبالتأكيد لا يوجد صورة مجانية!
في ساحة الفنا، يكسب الجميع مالاً ممّا يبتكره لتسلية المارّة، حتى وإن لم يملك سوى كفتي ملاكمة مهترئتين، فهناك بالتأكيد من يريد إبراز عضلاته، فيدفع ويدفع جمهوره معه القليل من الدراهم. لا أعلم لمَ كنت أرغب في زيارة هذه البلاد بالتحديد، ولكن ذات ليلة في مكتبي المنزلي، وجدت نفسي أقلّب صفحات محركات البحث بحثاً عن إجازة “روحانية” أغرق فيها في التأمل وسط الطبيعة ورياضة اليوغا وكل ما يتبعها، فعثرت على إجازة في جبال أطلس، وبالطبع كنت الوحيدة التي تحتاج إلى تأشيرة للمغرب بين مجموعة من الأجانب حملة الجوازات الأقوى في العالم!
في اليوم التالي، استيقظت في مكانٍ لا يشبه هذا العالم، بل كما لو أنه منزوع من العالم الخارجي، منسيّ بين الجبال الخضراء وسائقي الحمير والبغال، والبيوت المهترئة، والمياه الجارية بين سفوح الجبال والفلاحين والفلاحات الذين يحيّونك أجمل تحية ببضع كلمات من الفرنسية ولكنهم لا يتكلمون العربية. الناس هناك بسطاء، يريدونك أن تتعرّف على الأهازيج الأمازيغية ليلة وصولك، وطقوس الشاي، وأكلاتهم، ولا يأبهون بما تفكّر حول بساطة الحياة التي يعيشونها!
هُناك، يريك المرشد الأحرف الأمازيغية التي أصبحت تزيّن اللافتات للمرة الأولى علناً بعد التعديلات الدستورية التي أعقبت الربيع العربي في المغرب، والتي اعترفت باللغة الأمازيغية لغة رسمية في البلاد. يشرح لك الرموز، ويتركك تسأل ألف سؤال، ثم يمازحك أحدهم معلقاً على استغرابك: ألم تكن تعرف أن هناك أشخاص لا يتكلمون العربية في المغرب؟
ليس بالضبط هذا ما عنيته، ولكن كنت أعرف القليل عن هذه الثقافة، ولم أكن مطلعة عن كثب على الحساسيّات المتعلقة بالهوية في المغرب، وتطرّف بعض رموز الحركة الأمازيغية في معاداة اللغة العربية وكل ما جاء معها. تبدأ تُلاحظ منذ تلك اللحظة كم مرة يشير الناس في أحاديثهم العابرة أنهم ليسوا عرباً، كسائق التاكسي الذي يعرّف باسمه ويتبعه بكلمة “أنا لست عربياً بل أمازيغياً” بالفصحى على أمل أن أفهم كلامه، وقائد مجموعة سياحية في مدينة أخرى يرفع العلم الأمازيغي ويشتبك بالكلام مع سيّدة ترفع العلم المغربي وتقول “كلنا المغرب”.
تبدأ تُلاحظ التركيز على “الرحلات ذات الطابع الثقافي البربري”، ومكاتب السياحة التي تقول أنها تتخصّص في الرحلات التي تعرّف السيّاح بهذه الثقافة، ومن ثم تقرأ لاحقاً كم يُهان البعض من جعل هذه الثقافة تبدو وكأنها “مهددة بالانقراض” حتى باتت كل هذه المكاتب تستقطب السيّاح الأجانب ليلقوا نظرة أخيرة عليها!
هُناك، تحاول أن تفهم من سكّان القرية الذين جاوروا يهودها، قبل أن يتركوها ويهاجروا إلى فلسطين ليحتلوا أراضِ ويتركوا بيوتهم خاوية، فيشرح لك المترجم أن ما تسأل عنه غير ذي صلة لرجل عاش طيلة حياته يجرّ البغال ليركب عليها السيّاح، لم يغادر القرية يوماً، ولم يعرف أن هناك حرباً في أي مكان في العالم إلا إذا جاءهم رسول من منطقة أخرى يوم السوق الأسبوعي يروي لهم ما حدث!
هُناك تحاول أن تفهم كيف يعيشون بهذه البساطة، والتي بالمناسبة تأسر قلبك ولكنها تبقى عصيّة على الفهم، فيفاجئك أحدهم ويقول أنه يعتقد أن وصول الكهرباء، مثلاً، إلى القرية قبل حوالي 14 سنةً قد بدّل سلوكيات الناس للأسوأ، ويا ليتها بقيت بلا كهرباء! هُناك تسأل الله الكثير من الأسئلة، وأنت تتأمل في السماء المترامية فوق الجبال، بصوتٍ مرتفع ولا أحد يسمعك. هُناك لا تأبه بشيء!
بعد حوالي أسبوع من صفاء الذهن في الجبل، عُدت إلى مراكش التي بقيت فيها لبضعة أيامٍ أخر، وبدأت أحدّق في المارة بحبٍ لا أعرف مصدره، في السيدات اللواتي يصطففن على الرصيف المقابل لمنطقة الفنادق، ينتظرن من يقلّهم لتنظيف بيته ويدفع لهم أجرة يومية زهيدة، في المارة الذين يتجهون لصلاة المغرب في المسجد القريب من الفندق، والعاملين ذوي الملامح المُرهَقَة.
بعد أسبوعٍ من ذاك الصفاء، لم يكن مستغرباً أن أرغب في شراء ورود حمراء أوّزعها على السيدات، ففعلت، ومازحت إحداهن، فقلت أن “عائلتها ستستغرب من مصدر الوردة الحمراء”، وردّت بكل عفوية قائلة “لا تقلقي.. عائلتي ستسألني أين الخبز، ولن تكترث للوردة”، ولكنها أخذتها على أية حال!
أما العجوز المُرهق الذي يعمل في ركن السيّارات من الصباح الباكر وحتى ساعة متأخرة من الليل، فلم يفهم المغزى من الوردة، إما بسب بلهجتي المختلفة أو لضعف سمعه وعدم اكتراثه ببذل مجهود إضافي، فأخذها ووضعها بعيداً عن أعين المارة سريعاً، وودّعني بسرعة أيضاً.
أحياناً نكون ساذجين، ولكن لا بأس بقدرٍ من السذاجة، خصوصاً إن كنت معزولاً عن العالم الخارجي، تكلّم عائلتك إن اضطررت من الهاتف العمومي في الشارع، لا تعرف أي مصائب حلّت بالكون، وتعتقد أن تلك اللفتات البسيطة النابعة من القلب، والتي ترسم بسمة قصيرة الأمد، تكفي ليتعايش الناس مع مصائبهم لذلك اليوم!
وبعد أن تنتهي من هذه المحاولات، وتنفق كل ما بحوزتك، يبقى معك رواية صغيرة الحجم لمحمد شكري، بعنوان “زمن الأخطاء”، يمكنك أن تقرأها وأنت مسترخٍ بالقرب من الحديقة العامة بالفصحى التي نعرفها، تارة تقرأ وتارة تراقب المارة حتى يأتي موعد طيّارتك، فتوّدع المغرب موقناً أنك عائد إلى هذه البلاد!
********
وها أنا أعود إلى المكان ذاته في الشهر ذاته من السنة التالية، بهاتف يتمتع بقدر بسيط من الذكاء هذه المرة، أي أنه متصل بالبريد الالكتروني طوعاً، ولكن لا يحتمل تطبيقات التواصل الاجتماعي الأخرى، مهشّم الشاشة قليل الحيلة.
هكذا تُعاش المغرب، فكنت أشعر وكأنني أُفقد التجربة جمالها إن اتصلت بالعالم الخارجي، وتركته يتسلل إلى بضع لحظات من الصفاء الخالص، بل وحتى لا أترك الرغبة في مشاركة كل صغيرة وكبيرة مع المعارف والأصدقاء في نفس اللحظة تسرق تلك اللحظة. بيد أن البرنامج كان مختلفاً بعض الشيء هذه المرة، فوصلت للمرة الأولى إلى الدار البيضاء، التي تعتبر العاصمة الاقتصادية للبلاد.
على الرغم من أنني لم أقابل أي مغربي يتحدث بحبٍ عن الدار البيضاء أو يدعوك لزيارتها مجدداً، إلا أنني أحببتها هي أيضاً، فقد جرّبت ركوب الأمواج فيها للمرة الأولى ذات يومٍ غائمٍ بطقسٍ باردٍ قليلاً في شهر أيّار، ولكنني لم أفلح في ركوب أي موجة، بل تركت الأمواج تعبر من فوقي بسلام!
من هناك، انطلقنا إلى مدينة فاس، المعروفة بأنها العاصمة الثقافية والروحية للبلاد، وذهبنا في جولة نتعرّف على مدارسها، والجامعة الأقدم في العالم التي لا زالت تستقبل الطلبة حتى يومنا هذا في المدينة القديمة، وأصحاب الحرف والصناعات التي تشتهر بها المدينة برفقة مرشدٍ من أهلها لم يُعِر أسئلتي أي اهتمام، لانشغاله بالحديث مع صديقتي “المهندسة” وإعجابه بدراستها وتحقيقها لذاتها، على الأقل ليست “صحفية ومترجمة” مثلي مثيرة للشفقة!
هُناك، المحلات الصغيرة لا تهدأ حتى ساعات المساء الأولى. هُناك تراقب عمل الناس الشاق في دباغة الجلود، وحياكة السجاد والوشاحات وتتعجّب من كل ما تصنعه اليد على مدار ساعاتٍ طويلةٍ كل يوم، ثم تفضّل المنتج الآخر الذي يُباع بسعر تجاري بخس في سوقٍ آخرٍ بعد انتهاء الجولة، ليبقوا هم معلماً من معالم الجولة. ولكن تتذكّر بعدها أن منهم من ورث المهنة أباً عن جد، وهي بالتأكيد جزء من إرث المدينة وستبقى حتى وإن شفقت على العاملين فيها!
بعد نهارٍ كاملٍ في القطار، وصلت مرة أخرى إلى مراكش، لوحدي مرة أخرى، تائهة في ساحة الفنا، تسترق السمع لما يقوله قارئ الفال للناس تارة بفضولية، وتارة بدعوة من بعضهم للترجمة. كم فكّرت في تشابه حاجات وهموم البشر الذين يأتون ذاك العجوز الجالس تحت مظلته طوال النهار ليخبرهم أن القادم أفضل. يتحدث هو بلغةٍ بالكاد تفك حروفها، ولكنهم يريدون الزبدة فقط التي تطمئنهم بأن ما ينتظرون قادم!
في الجبال التي تبعد عن مراكش ساعة واحدة بالسيّارة، جلست مرة أخرى وسط مجموعةٍ من الغرباء نستنشق هواءً نقياً، نغمض أعيننا نستمع إلى الصمت بداخلنا، يوقظنا صوت الحيوانات التي نعيش نحن بينها، نقصّ على بعضنا البعض لماذا جئنا، وندع الأيام القليلة التي قضيناها معاً تعرّفنا على أكثر أسرارنا حميميةً بلا خجل، فالجميع عائد إلى وطنه بعد هذه الإجازة وقد لا نلتقي مجدداً!
كذبت على سائق التاكسي الأخير، وقلت له بعد أن بلغ بي الغضب من سائقي التاكسي الآخرين الذين لا يريدون تشغيل العدّاد، بأنني “تعبت من المغرب واكتفيت” وأن الوقت قد حان لأوّدع المغرب بلا عودة. كذبت بالطبع. لم أكتفِ ولم أكتشف بعد سر هذا الحب!
********
تحقّقت أمنيتي في المرة الثالثة، وتبيّن أن أحدهم يعرف عن الأردن أكثر من معلومة أن ملكته جميلة وأنيقة. جلس أمامي شاب مغربي في القطار من الدار البيضاء إلى فاس في ساعة متأخرة من عيد الحب، وقال بأنه معجب بالممثل الأردني منذر رياحنة ودوره في مسلسل الاجتياح!
تمثيل عظيم، كما وصفه، فسُعدت على الرغم من أنني لم أحضر المسلسل يوماً. حتى وإن لم يحذروك مراراً وتكراراً من السير لوحدك في المساء في المدينة العتيقة، فلا زلت تحتاج إلى مهاتفة الفندق وانتظار المرافق منه ليصطحبك من مكان وصول السيّارة التي تقلك عند مدخل المدينة، فمن الصعب أن تهتدي إلى وجهتك وسط كل تلك الأزقة!
بعد أقل من دقيقة، تبدأ تشعر بألفة المكان الذي سُحرت به قبل عام. يبدو لك وكأن شيئاً لا يمكن أن يتغيّر في هذه المدينة، وقد حفظت بعض الوجوه ووجدتهم في السنة التالية في مكانهم، منشغلين بالأمر ذاته. بيد أن لسكان المدينة القدامى رأياً مختلفاً، فهم يقسمون أن شيئاً منها لم يبقَ على حاله بخلاف انطباعك كسائح.
كان لي في هذه الرحلة هدف مختلف، فقصدت المدينة محاولةً تتبّع قصة أو اثنتين من سكّان المدينة، فتبعت “بوشتا” إلى بيت حنّاية فاسية أخبرتني عمّا تعنيه هذه الأوراق لأهل المدينة، ومن ثم استمعت للعامل في اللباطة الذي اعتقدت أنه عمله يرقى إلى العبودية يصف لي حبه لعمله ورغبته في مزاولته للأبد، وزُرت بيتاً فاسياً ساحراً رفض أهله بيعه وتحويله إلى فندق يديره أجانب، كما فعل آخرون.
تعرّفت في طريقي أيضاً على سيّدة أخرى لا تفارق دكانها وهي في أواخر السبعينيات من عمرها حتى تبقى مستقلةً لا تحتاج مساعدة من قريب أو بعيد، ومن ثم اهتديت بالصدفة المحضة إلى بيغونيا. بيغونيا تشبه الفتيات والفتيان الذين تقرأ قصصهم في مقالات قسم السفر في البي بي سي، تلك الشخصيات التي تقرّر أن تترك كل ما تملك خلفها بين ليلةٍ وضحاها وتخرج تبحث عن شيء آخر يروي عطش من نوع آخر. هكذا فعلت بيغونيا عندما تخلّت عن كل شيء وذهبت في إجازة للمغرب، لتكتشف بعدها أنها تريد العيش فيها وتدريب اليوغا لأهل المدينة والأجانب الذين يقصدونها لدراسة اللغة العربية.
ونحن نجلس على سطح منزلها المستأجر في المدينة القديمة، أخبرتني بيغونيا أنها أصبحت مسلمة بمحض إرادتها، ولكن صوت ما بعقلي لم يصدق، وبقيت أكرّر السؤال ذاته عدة مرات: هل أجبرك أحد على ذلك؟ هي تنفي، وأنا أكرر: ولكن هل لأنك شعرت بأنك تعاملين معاملة مختلفة؟ هي تنفي مرة أخرى، وأنا أكرر: ولكن هل كان ذلك بسبب الضغط المجتمعي من حولك؟ هي تيأس من إقناعي وتقول: إنها مجرد ورقة. ما دمت مقتنعةً أن الله واحد نعبده جميعاً، إذن أنا مسلمة حكماً.
بذلت قصارى جهدها لأفهم أن الورقة ما هي إلا وثيقة ضرورية لتسمح لها بالدخول إلى المسجد. أنا قادمة من سجالات عقيمة في رأسي بسبب الأخبار وكل ما يحدث في المنطقة من تطرف وتطرف مضاد، وهي بحالة سلامٍ كاملٍ لا يهمها ما أقول. أنا قادمة من مكانٍ في العقل يسأل كل يوم عن سبب معاناة الملايين من الناس، وهي موقنة بأن الله خلقنا لنكون “سعداء” ونستمتع بما أنعم علينا من هبات غير مادية. هي في واد وأنا في آخر!
توّقفت لاحقاً لمدة قصيرة في مدينتي شفشاون وطنجة، ومن ثم عُدت بالقطار مرة أخرى إلى الدار البيضاء، بالتزامن مع فيضان في الرباط شلّ حركة المدينة كاملة. استغرقت الرحلة التي يُفترض أن تستغرق خمس ساعات كحد أقصى حوالي عشر ساعات لم نملأها بالاستغفار، بل بالشتم والصراخ والشكوى من “إهمال معتاد” أدى إلى شل الحركة لأن “الرباط غرقت” كما شهدت جميع الصحف في اليوم التالي! لكم بدا الحوار مألوفاً بين مواطن غاضب وموظف يقسم أن هذه الحوادث تقع في أكثر البلدان تطوراً، وأن على الناس أن يسلّموا بذلك. لكم بدا أننا فعلاً “حال بحال” كما يقول لي كل مغربي يعرف أنني من الأردن!
غادرت ولم أجمع سوى جزء يسير لا يُذكر من القصص التي أنوي جمعها من هذه البلاد، وللحكاية تتمة!