عندما حالفني الحظ لأقضي العام والنصف الماضيين في المملكة المتحدة بغرض الدراسة، لم يكُن التأقلم على هذه الحياة سهلًا في البداية، إذ لم أكن معتادة على السير دون أن أتحسّب لكل خطوة، أو أن أجلس في المواصلات العامة دون أن أراقب من يجلس بجانبي، أو أن أضع خطة للهروب أو للمقاومة أو حتى ارتداء ما أحب دون أن أضع في الحسبان نظرات الناس في الشوارع والأماكن العامة.
في إحدى المرات، كنت عائدة إلى بيتي في الليل بعد يوم دراسي، وشعرت بخطوات خلفي. استشعرت على الفور زيادة سرعة نبضات قلبي، وبدأت تلقائيًا في إسراع خطواتي لمحاولة الوصول إلى البيت، الذي لم يكن سوى غرفة داخل الحرم الجامعي الذي لا تنقطع عنه الدوريات الأمنية على مدار الساعة. لاحقًا، أدركت أن تلك كانت خطوات أحد زملاء الدراسة العائد أيضًا إلى سكنه مثلي تمامًا.
هذه المشاعر والأفكار التي طاردتني في الشهور الأولى لسفري أعادتني إلى قصة صحفية أنتجتها قبل سنوات بعنوان "مخاوف التحرش تلاحق المصريات في الخارج؟"، حيث تحدثت فيها إلى نساء مصريات عشن تجارب مماثلة بعد السفر أو الانتقال للعيش في أماكن أكثر أماناً وأخذن يسردن تجاربهن في صعوبة التخلص من هذا العبء الذي تحملنا به بلادنا عندما نخرج منها ونتفاجأ أن هناك "حياة" وليس مجرد "نجاة". قالت إحداهن: "في الأول لما كان ييجي راجل مثلًا يقرب عايز يسألني على حاجة مش هيلمسني كنت بترعب وبكش وبخاف لأني اتبرمجت على إن الراجل لما يقرب مني معناها انه هيلمسني أو هيأذيني". وقالت الأخرى: "كنت بلاحظ إن دي حاجات بعملها في مصر وفضلت أعملها وأنا برة، زي إني مثلًا أبقى ماشية عالرصيف وفي مجموعة رجالة على نفس الرصيف بلاقي نفسي تلقائيًا بروح ع رصيف تاني، أو لو جوة مول وبطلع السلم ففي حد جاي ورايا طلع بسرعة وحاجات شبيهة بكدة".
أنا أيضًا مثلهن. لديّ نفس الآليات الدفاعية التي أجبرتنا الحياة في بلد تعرضت 99.3% من نسائه إلى التحرش الجنسي بحسب هيئة الأمم المتحدة للمرأة 2013، على تطويرها و"البرمجة الذاتية" عليها.
قبل رحيلي، كان التحرش جزءًا لا يتجزأ من يومي. أستيقظ وأعلم، في مكانٍ ما من اليوم، في طريق ما، في نظرة أو كلمة أو اقتراب غير مرغوب فيه، سيكون هناك لحظة أتعرض فيها للانتهاك. روتين يومي مثله مثل أشكال متنوعة من العنف ضد النساء في مصر. لم ولن أتقبل هذا الانتهاك يومًا، بل العكس تمامًا فأنا أقضي حياتي منذ سنوات في الدفاع عن حقنا كنساء في العيش بأمان وكرامة وحرية. لكنه كان حاضرًا إلى حد يجعلني أتجاوزه أحيانًا بصمت لأكمل يومي. كنت أقاوم، أكتب، أتحدث، أواجه، لكنني في قرارة نفسي كنت أعلم أن جسدي ليس في مأمن، حتى حين أكون أكثر حذرًا. كان ذلك الإرهاق اليومي ثقيلًا، لكنه مألوف، كأن الخوف جزء من جدول الأعمال، لا يُلغى، ولكنه يؤجل فقط.
وعندما سافرت، كنت أظن أنني أحمل حقيبتي فقط. لم أكن أعرف أنني كنت أضع في تلك الحقيبة أيضاً كل طبقات الحذر التي عشت بها لسنوات في مصر، كأنها دروع غير مرئية أحملها دون أن أشعر. طريقة سيري في الشارع، حذري من نظرات الغرباء، اختياري لملابسي، ردود أفعالي اللا شعورية إذا اقترب أحد أكثر من اللازم. كلها أصبحت "أوتوماتيكية" لدرجة أنني اتحدت معها وباتت جزءًا من ذاتي. كان التغيير الأهم ليس في المكان، بل في داخلي: أن أتخلى عن تلك الآليات الدفاعية التي كانت تحكمني لسنوات، وأن أسمح لنفسي بأن أعيش كإنسانة كاملة، لا كفريسة في وضع تأهب دائم واستعداد للهرب.
لكن هناك، بعيداً عن مصر، بدأت هذه الآليات تتآكل تدريجياً. في البداية، لم أكن أدرك أن هذه الراحة الجديدة هي ما يجب أن يكون طبيعيًا. استغرقني الأمر وقتًا حتى أتعلم كيف أتنفس بهدوء، كيف أعيش بلا خوف دائم، وكيف أصدق أن جسدي لا ينظر إليه كهدف أو كذريعة.
بالطبع، لا يعني ذلك أنني سافرت إلى "يوتوبيا" حيث تعيش النساء في أمان مطلق، فالعنف ضد النساء لا يعترف بالحدود. ولكن ندرة هذا النوع من الجرائم جاء نتيجة لوجود قانون مفعَّل لا يفترض مشرعوه أن جسد المرأة عيب وثقافة لا تلوم الناجية على تعرضها للتحرش ومساحات عامة مفتوحة للجميع. لذا، فالأمان لا يعني غياب الخطر، ولكنه يعني وجود آليات حقيقية لمواجهته.
مع الوقت، أدركت أن هذه ليست رفاهية. هذه هي الحياة التي نستحقها. الحياة التي تعامل فيها النساء بكرامة، والتي لا ينظر فيها لأجسادنا كحق مستباح أو مساحة للانتهاك.
لكن مع الأسف، كانت رحلتي طويلة بما يكفي لتتفكك آلياتي الدفاعية، لكنها في الوقت ذاته كانت قصيرة بما يكفي لأن تنتهي وأعود إلى واقع كنت أظنه مألوفًا، لكنه لم يعد كذلك. تلك المناورات اليومية التي اعتدت ممارستها سنوات عمري كله باتت تستنزفني وطقوس النجاة التي أتقنتها منذ صغري أصبحت عبئًا ثقيلًا على جسدي وروحي.
"لا أعرف إن كنت قد تغيرت فعلًا، أم أنني فقط تذوقت طعم الحياة حين لا يهدد جسدك في كل زاوية. ما أعلمه يقينًا هو أنني فقدت تلك 'المناعة الزائفة' التي يطوّرها جسد المرأة المصرية كوسيلة للبقاء. أصبحت أكثر حساسية وأكثر غضبًا. لا لأنني ضعفت، بل لأنني جربت الحياة بدون خوف، وعرفت أن هناك بديلًا. يجعلني الآن أرفض أن يكون الانتهاك هو القاعدة. لا نريد أن نحيا دائمًا في وضع "الناجية". نريد أن نحيا فقط، بكرامة.
في كل هذا، لا أملك نهاية حاسمة. ما زلت أتعلم كيف أعيش هنا مجددًا، دون أن أفقد نفسي التي وجدتها في الغربة- مع تحفظي على لفظ الغربة حيث أعيش هذا المصطلح هنا في وطني- لكنني أكتب لأقول إننا فقط بشر، نطالب بأن نعامل كما ينبغي. أن نعيش بلا خوف. وأن نتوقف عن تطوير "آليات دفاعية"، لأننا لا نحتاجها في عالم عادل.