في حضرة الفقد، نقاوم
عن الفقد - إلى إبني - الرحباني
2 جويلية 2025
أكتب هذا المقال في جوف السّحاب وأنا في الطائرة متجهة نحو كولومبو، عاصمة سريلانكا. كنت قد شاهدت للتوّ فيلم إلى ابني من إنتاج، وإخراج، وبطولة الممثل التونسي ظافر العابدين، وتدور أحداثه في أبها، السعودية.
بكيت كثيرًا… لكم أن تتخيّلوا وجهي وأنا آكل وجبة الدجاج المقدَّمة في الطائرة ودموعي تنهمر على خدّي. بكيت من أوّل الفيلم إلى آخره. أيقظ فيّ الفيلم أسئلة عن الإغتراب و ضريبته.. عن الكلام المنعقد في الألسن رغم حنين القلب لصفح و عناق بعد عتاب، عن تفاهة الدّنيا و سراب مفاهيم النّجاح، عن الفقد حين يترك خلفه ظلاّ مقيما في الأرواح.
لم أكن من أولئك الذين يدمعون أمام الشاشات، ولكن في السنوات الأخيرة، تحرّرت ينابيع البكاء من داخلي، ولم تعد تبالي بنظرات العابرين، وأطلقتُ العنان للغدد المسؤولة عن البكاء… ويا له من إحساس محرَّر مُعتِق.
جانب منّي، من هويّتي، فنانة لم تعتلي الخشبة كما ينبغي بعد، وكاتبة لم تنهِ أقصوصتها بعد. ولكلّ مبدع حسٌّ مرهف، وإن فرضت عليه الحياة الصرامة أحيانًا.
معاني الفقد وعمقها، وإيقاع الفيلم البطيء، حرّك فيّ مشاعر الحب والحزن معًا. نتعامل جميعنا مع الفقد بطرق مختلفة، وأصعب أنواعه ذاك الذي يخدعنا، فيفصلنا عن الأمل، وكأنّ الزمن توقّف، فلا نرى بُدًّا من يوم آخر.
ربّما أقسى الفقد هو أوّله، فيأتي منبّهًا بمشاعر جديدة دخيلة على نظامنا الطفولي، نهرب منها حتى نواجهها ونتقبّل الحياة، فيبدأ خلاصنا. إنّ الأمل مقرون بالشجاعة لا محالة… الأمل أصعب من اليأس. الأمل هو جوهر المقاومة في وجه الأقدار والحياة.
في أيّامي الحالكة، أو بالأحرى حين أركب موجة الحياة المنخفضة الآيلة للارتطام، تخفّف عنّي صديقتي القاطنة بتونس العاصمة وتقول: "ما دمنا نتنفّس، فلنا في الحياة ما نصنع، والله حكيم عليم".
مع مرور الزمن تعلّمت أنّ فقد الأحياء هو الأشدّ، ذلك لأننا نشعر بمسؤوليتنا في ”سوء“ الاختيار أو في عدم توفيقنا فيه. ويصبح بالتالي جزء من الإصلاح هو مواجهة ذواتنا ومسامحتها.
لكنّ الفقد الحقيقي، كلّ الفقد، هو فقد جزء من ذواتنا، أو من سرديّة حدّثنا بها أنفسنا لسنوات، وآن أوان التخلّي عنها. أتساءل أحيانًا عمّا يحدث في فلسطين، وكيف للمرء أن يتعامل مع الكمّ الهائل من الفقد… حيث أصبح الفقد هو القاعدة، لا الاستثناء. ليس لي إلاّ التساؤل، والدعاء لهم بالعِوض، فلن يدرك تلك المعاني إلاّ من عاشها. ومع ذلك، أشاهد لقطات العزم والثبات، والابتسامة تعلو وجوههم…
فالأمل جوهر المقاومة بالفعل.
29 جويلية 2025
كولن، ألمانيا - قاعة الانتظار في عيادة الطبيب
الانتظار، والإيقاع البطيء، هو ما أحتاج إليه لأكتب وأكمل هذا المقال.
عجيب أمرها هذه الحياة. كنت قد كتبت عن معاني الفقد التي استبطنها فيلم العابدين، وهذا الأسبوع غادرنا الرحباني، وفقدناه جميعًا. لكنّ رحيله جعلني أتفكّر مرّة أخرى في معاني الفقد…
هل فقدنا الرحباني حقًا؟ كيف ذلك وصوته لا يزال يعلو، وبعضهم يسمعه الآن أكثر من ذي قبل؟
هل نفقد من لا يزال صوته يملأ العالم؟ هل يموت من تُتلى أعماله كل صباح؟ ربّما… لا نفقدهم تمامًا… بل نعيد تشكيل حضورهم فينا، في الذاكرة، في الذائقة، في البكاء الخفيّ. يخلّف الفقد أثرًا في الذاكرة، وأحيانًا يكون الأثر خالدًا…
أوليس الخلود من صفات الله؟
الإنسان، في بحثه المستمرّ عن المتجاوز والإلهي، يحيي صفاته بالفكر، والفن، والكتابة، والعِلم، وغيرها.
الفقد أوسع ممّا ظننت… وربّما له جانب شاعريّ، مرهف الحسّ، جميل. ليس قبيحًا ومؤلمًا كما يُخيَّل لنا في الكثير من الأحيان.
هو دعوة لأن نُبقي على شيء من مَن فقدنا، حيًّا فينا.
ليس بالضرورة أن نتجاوزه.
أحيانًا، فقط أن نعيش إلى جواره… هو أيضًا شكل من أشكال المقاومة
فطوبى للمقاومين!



مشاعر راقية وتعبير أرقى. أتفق معكِ أن أقسى الفقد هو فقد الذات، أو جزءٍ منها، حين يُجبر الإنسان على الذوبان في هوية لا تُشبهه، وسردية لا تمتّ إليه بصلة. وهذا بالضبط ما تعانيه أمتنا في زمن ما بعد الكولونيالية، حيث يُعاد تشكيل الوعي ليبتعد عن جذوره.
أما في غزة، كما تفضلتِ، فقد تحوّل الفقد إلى مكوّن من مكوّنات الهوية، لا يُضعفها بل يزيدها رسوخًا وثباتًا، ويغذّي فيها روح الأمل والتشبث بالذات، والتراث، والجذور. ومن هذا العمق يولد نوع من التحرر الخلّاق، حياة لا تُقهر، وإبداع لا يُستأصل.
شكرًا لمقالك، ولما حمله من صدق وأفكار تستحق التأمل