في مقابلة مع زياد الرحباني شاهدت بعض لقطاتها على منصة إنستغرام، سأله المذيع: "من هو السعيد في الحياة؟" فأجابه الرحباني بلكنته اللبنانية: "إلّي بلا مخّ"، أي حرفيًا: من لا عقل له، فلا يشغل باله بهموم العالم ومآسيه، ولا بأحزان من حوله. وفي مصر، هناك مقولة تعلمتها في الإسكندرية حين زرتها عام ٢٠١٨ وهي: "اشتري دماغك"، أي أن تزهد في المشاكل واهنأ بالسكينة..
في عالمنا الحالي، تتسارع المعلومات بطريقة تفوق قدرة العقل البشري على الاستيعاب - وفقًا للاختصاصيين. إذا كنت تعيش في المدينة، فلا فرار من المعلومة، فهي تسبقك رغمًا عنك. تراها على لوحات الإعلانات، وفي الجرائد التي يقرأها ركاب المترو أو رواد المقاهي، وتسمعها على الراديو عندما تركب التاكسي. وأحيانًا، تقرر التجول في الشوارع للترويح عن نفسك، فتجد مظاهرة هنا أو ملصقات على الجدران هناك تطالب بحقّ قد يُراد به باطل... أو لا، فذلك موضع اختلاف في وجهات النظر.
عندما أقابل بعض أصدقائي، نتحدث أحيانًا عن حياة الإنسان العصري. نقول ما أحوجنا إلى الطبيعة والابتعاد عن ضوضاء المدينة! نرسم لأنفسنا أحلام العمل في الفلاحة، ونشتكي من الضغوط المجتمعية في اختياراتنا، حتى وإن لم نشعر بها بوضوح. بعضهم يقول: "كم أن جيل التسعينات متعب! يشكو قلة حظه، ويتوق إلى حياة أبطأ، لا سباق فيها، ولا ضغط إنجازات يؤرق الضمير"
في ظل ما نعيشه، أصبح الشجاع في نظر الكثيرين هو من يعتزل مضمار الحياة ولو لفترة قصيرة. ومن هنا، نجد أن ظاهرة الإجازة المطولة من العمل (sabbatical year) تزداد شعبية، ويلجأ إليها كثيرون في الثلاثينيات والأربعينيات من أعمارهم، رغم أن هذا العمر كان يُنظر إليه تقليديًا على أنه "أوج العطاء". ومن جهة أخرى، تعالت في السنوات الأخيرة أصوات تقلل من قيمة الطموح والعمل والسعي، وهو ما لا أراه متماشيًا مع طبيعة الإنسان، فالعمل، خاصة إتقانه، سمة جميلة تستحق الثناء والتقدير.
فهل حقًا السعيد هو "بلا مخّ" كما أشار الرحباني؟
لا أدّعي معرفة الإجابة إطلاقًا، فأنا، يا عزيزي ويا عزيزتي القارئ/ة، مثلكم "أصارع" الحياة... لكن ربما أدركت مع مرور الوقت أن "مصارعة" الحياة معركة خاسرة لا محالة. لا تصارع الطبيعة، بل سايرها كما تسير في الأرض. ولذا، أصبحت أقول: "أركب أمواج الحياة"، فالموج تارةً عالٍ وتارةً منخفض...
وقد حظيت بفرصة تعلم ركوب الأمواج مرات عديدة في "بلدي الثاني"، المغرب. كنت أظن أن الأمر أسهل بكثير، حتى ركبت موجة عالية، لكن البحر لطمني مرارًا، وكأنه يهذب كبريائي، ويخبرني أن عليّ أولًا إتقان ركوب الأمواج الأخرى قبل أن أتحدى الأكبر منها. وكأنه يخرجني من سباق رسمته لنفسي دون سبب، أو بالأحرى من ضغط قد يبطئ تقدمي.
ربما تكمن الإجابة في المراوحة بين الكرّ والفرّ، كما قال حنبعل حين عبر جبال الألب. أحيانًا، نحتاج أن نكون كالأحصنة في سرعتها، وأحيانًا أخرى كالفيلة في تأنّيها. ربما السعيد هو من أتقن فن المراوحة وعرف نفسه حق المعرفة...
ولاّ شو؟