جاي من الريف للعاصمة
في العاصمة، لا أحد مُرحب به عكس ما هو شائع عنها. تصلك كل علامات الطرد منذ الزيارة الأولى، يبدو أنها تختبر مدى قدرتك على التأقلم بها. تملك القاهرة طاقة ساحرة تفهم منها نواياك تجاهها فإن كنت مجرد زائر، ستجعل زياراتك رائعة ولا تُنسى، وإن كنت تخطط للإقامة بها، ستحرص على أن تكون إقامتك مليئة بالإثارة والتحديات حتى تثبت أنك قادر على الاستمرار في مكان لا يبتسم فيه أحد، طبقي وحزين.
لنفترض أنك تشهبني، زائر ترغب في الإقامة بالعاصمة، كأي قروي لم تجد فرصة حتى في أقرب مدينة لك بعد التخرج، واضطررت للسفر للبحث عن ذاتك وتكوين نفسك، أيًا كانت نواياك. بالتأكيد، مر عليك إحساس الغربة وكأنك تركت دولتك بالكامل. فأولاد الأقاليم مثلي معتادون على الهدوء والتواصل والايقاع الهادئ، حتى أصدقائي الذين عاشوا حياتهم حول سواحل البحر وفي مدن أكثر خبرة ورواجًا من مدينتي، عصفت بهم القاهرة مثلما عصفت بي.
سأدع لهم المجال ليتحدثوا عن تجربتهم فيما بعد، ولكن سأتحدث اليوم عن تجربتي الشخصية وعلاقتي بالقاهرة ومفهوم الانتماء، وكيف تشكل وتغير ثم تغير تكرارًا مع كل فصل في حياتي الموسمية للغاية.
وصلت إلى القاهرة ليس كما وصل أحمد عبد المعطي حجازي عندما قال في قصيدته "حب في الظلام":
حبيبي من الريف جاء
كما جئت يومًا، حبيبي جاء.
لم يكن لدي الرغبة في الارتباط في وقت كانت جميع صديقاتي على وشك الزواج، لذا عزمت على إيجاد نفسي والتنفس في القاهرة بعيدًا عن محدودية الفرص في مدينتي، ربما كنت أحب أن آتي إلى المدينة الكبيرة كزائرة، إن لم تحصد بأنانيتها على كل فرص الدولة، فالظلم الأكبر هو أن أسير كل هذه الكيلومترات للبحث عن فرص لربما وجدتها في محافظتي لو كان هناك تعميم للفرص أكثر من مجرد حصرها في العاصمة.
ربما تظن وأنت تقرأ مقالتي أنني أبالغ، لكنني حقا شعرت بكل هذا الحنق معظم سنوات العشرينات، لأنني شعرت أنني لم أختر السفر للقاهرة كما يتصور البعض، فكيف أختار ما بين لا فرصة وفرصة؟ ربما بعد بضع سنين من الآن، أشعر أنني أرغب في العودة لمحافظتي للحياة هناك وَسْط الهدوء، لكن لم يكن يربطني بها غير أهلي وقبر أبي.
كنت أرغب في الرحيل لمكان أستطيع فيه التنفس.
مع وصولك للقاهرة، وخصوصًا من الطريق الزراعي، لن تجد حتى لافتة ترحيب ليكون الدرس الأول لك: أنت غير مرحب بك هنا!
–
بعد عشر سنوات من الحياة والاستقرار هنا، وبعد أن فتحت لي القاهرة ذراعيها بعد أن ضمنت ولائي وجديتي حيال الإقامة بها، شعرت ببعض جمالها وعرفتني على شوارعها من جديد. فأول سنتين لي في هذه المدينة كانتا في غاية الصعوبة، كنت أرى لونا غامقا في الجو، ولم أكن معتادة على أن الناس لا يردون ابتسامتي لهم في الشارع أو أثناء التعاملات اليومية، شعرت حقا أنني غريبة ولم أفهم طابع ساكنيها لفترة طويلة.
حتى تلك القائمة الطويلة التي وضعتها لنفسي لتحقيقها عندما أصل القاهرة، لم أقدر على تنفيذها لضيق وقتي مع العمل خلال أيام الأسبوع والسفر خلال إجازة الأسبوع للعودة لمحافظتي. صحيح أنني لم أشعر بالحنين ولا الرغبة بالعودة للحياة في محافظتي، ولكني أعترف بأنني حمدت الله أكثر من مرة على خط العودة بعد كل مرة تعرضت لكسر في نفسي مما حدث لي في هذه المدينة الكبيرة، مجرد الشعور أنني حرة أن أرجع واترك كل هذا كان متنفساً هائلاً، والحقيقة لم تُكن تمض إلا أيام قليلة بعد عودتي حتى أحن للقاهرة وأصالحها وأعود إليها مرة أخرى.
أكتب هذه المقالة في وقت حرج للغاية من الحياة، يبدو أن كل شخص أعرفه يرغب الآن في ترك مصر كلها وإيجاد فرصة للعمل في مكان يقدر عقولنا أكثر لتوفير دخل أفضل، وبعد سنوات من الحياة هنا أتساءل هل كانت البداية خاطئة عندما لم أسافر منذ البداية؟ غربة بغربة كما يقول البعض؟
في عز حنقي وفي شدة يأسي هذا العام من التغيرات الاقتصادية، لا أستطيع أن أجبر نفسي على الرحيل، المدينة تعني لي الكثير، أنا غير قادرة على تركها بعد، ويبدو أنها أيضا تشعر بأن الفكرة تراودني فتفعل بي كما تفعل عادة وهي أن تمشي عكس التيار، تصالحني وتشدني إليها أكثر بجعلي اطمئن وأستريح وأقدر كل نفس أسمعه بها.
صلاح جاهين لم يكذب عندما قال "بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء"، لخص كل مشاعر الحب والكراهية بداخلي تجاه هذه المدينة طيلة الوقت، تشعرني أحياناً بالتقدير وبأنني شخص مرغوب فيه وأحياناً أخرى أنني عبء ويجب علي الرحيل وأترك المجال لغيري ممن يبدؤون فيها.
لم أقدم نفسي أبدا أنني قاهرية إلا من قريب عندما لفُت نظري أنني أقدم نفسي دائماً بأنني من كفر الشيخ فما هو السبب؟ انتبهت أنني أعيش هنا منذ ١٠ سنوات ولم أغير ديباجة تعريفي قط، كأني لو تركت جزء كفر الشيخ سأتخلى عن كامل قصتي، ولكن الحقيقة أنني مقيمة في القاهرة وهذا الجزء من السردية لن يفهمه كل الناس، توقفت عن ذكر كفر الشيخ إلا عند الضرورة بعد سنوات من تكرار أنني مغتربة في القاهرة، أصبحت القاهرة تعيش في وأعيش فيها وأعرف شوارعها جيداً وأحبها وتحبني هي أحيانا وتكرهني وتريني كرهها أحيانا أخرى.
لو كانت القاهرة إنساناً، ربما لتنصلت من كل شخص غير أمين عليها، حول شوارعها لمكان أقل أماناً ولم يحترم جمالها ولم يقدر جاذبيتها ولتعاطفت معي لخسارة كل حلم أتيت به ولم أستطع تحقيقه من أجل بيروقراطية وقوانين لم تناسب إيقاعي ولا كرهي للروتين.
—
علاقتي بالمدينة بدأت عندما أردت فرصة إيجاد نفسي، واستمرت عندما تغير تعريفي عن نفسي، وتطورت في كل مرة علمت أنني لم أعرف نفسي بعد فبدأت من جديد، علاقة معقدة، أعلم أن علاقتي بالأماكن تتغير مع الوقت، ولكني مرتاحة جداً أن أذكر أني أشعر بالانتماء الآن أكثر من أي وقت مضى وأشعر بالحزن والغضب أيضاً أكثر من أي وقت مضى.
لست مستعدة للرحيل منها فالقاهرة مدينة لي بالكثير بعد، مقابلة أصدقاء لم أقابلهم بعد ومقابلة رفيق رحلة لم أعثر عليه، هي تعلم أماكني المفضلة وسترتب لي لقاءً منتظراً!
* عنوان المقالة مٌلهم من أغنية التونسي بلطي - جاي م الريف للعاصمة