كتب وتأملات (1)
أودّ أن أحدثكم في هذه المرة، والمرة القادمة أيضًا، عن بعض الكتب التي قرأتها مؤخرًا. تجدون في السطور التالية أقصر تعليق ممكن على كل كتاب من هذه الكتب:
في أثر عنايات الزيات
ذات يوم، التقطت الكاتبة المصرية إيمان مرسال رواية بعنوان "الحب والصمت" لكاتبة لم تكُن تسمع عنها من قبل اسمها "عنايات الزيات"، لتكتشف لاحقًا بأن الكاتبة، وهي صديقة للممثلة المصرية الشهيرة نادية لطفي، قد ماتت منتحرة. على مدار سنوات، عكفت مرسال على محاولة فك هذا اللغز، إذ بدأت رحلة البحث من المقابر ووصلت إلى كل من قد تربطه علاقة قرابة أو صداقة بالسيدة التي يتضح لنا أنها عانت من الاكتئاب، وسعت طويلًا لنشر روايتها اليتيمة، فكان الرفض الذي وصلها من إحدى دور النشر بمثابة الشرارة الأخيرة التي دفعتها لإنهاء حياتها.
الملفت أن الكاتبة لم تكتفِ بما يخص عنايات وحدها، بل شاركتنا الكثير من مشاهداتها أثناء السير في طريق البحث عن عنايات، وملاحظاتها وانطباعاتها أثناء اللقاء بمن عرفوها، كامتعاضهم عند طرح أسئلة معينة وغير ذلك من التفاصيل. كثيرًا ما تساءلت وأنا أقرأ الكتاب عمّا إذا كنت أملك نصف هذه الجرأة لوصف هؤلاء الناس بهذه الدقة والصراحة لو كنت أكتب قصة تكشف أسماءهم الحقيقية. الحقيقة أنني لا أمتلك ولا حتى عُشر هذه الجرأة. بقي أن أشير إلى أن كتابة مرسال توحي لك بأنها لم تجد أي صعوبة في كتابة النص، وكأن الأفكار تكتب نفسها تلقائيًا، وهذا، حتى وإن لم يكُن حقيقيًا، لهو حلم أي كاتب في العالم: أن تريحه أفكاره من عناء ترتيبها!
عندما تترنح ذاكرة أمي
قرأت عدة كتب للطاهر بن جلون، وهو صاحب واحد من كتبي المفضلة: تلك العتمة الباهرة، الذي يروي يوميات في السجن بعد محاولة انقلاب فاشلة في المغرب في السبعينيات من القرن الماضي. أحب في كتاباته أنها عادية، تروي، في كثير من الأحيان، تفاصيل يومية من دون فلترة ولا حبكات معقدة. لربما يعيب عليه البعض هذه الكتابة، ولكنها تروق لي شخصيًا. يتحدث الكاتب في روايته "عندما تترنح ذاكرة أمي"، عن أم أرهقها التقدم في السن والزهايمر، فلم تعُد تُميّز الماضي من الحاضر، أو الواقع من الخيال، كاشفةً في حوارات لا تمل من تكرارها عن تفاصيل زواجها الذي يشبه زيجات نسبة لا يستهان بها من نساء الأجيال السابقة. مأخذي دائمًا على كتب الطاهر بن جلون هو الترجمة للعربية، التي كثيرًا ما تكون مشوبة بالأخطاء، وكأن محررًا لم يلمسها بعد المترجم.
صنايعية مصر
يشبه هذا الكتاب ما كتبته مريم العبابسة عن عمّان في كتابها "مدينة الحجر والسلام" حين جمعت السير الذاتية المختصرة لأبرز شخصيات المدينة. في "صنايعية مصر"، يروي الكاتب عمر طاهر "مشاهد من حياة بعض بناة مصر في العصر الحديث"، حيث يغطي مجالات متعددة، من صناعة الشوكولاته والكولونيا إلى السينما والتلفزيون، ومن الطب إلى الاقتصاد والسياسة وغيرها. لفتتني مشاهد كثيرة في الكتاب، ولكنني سأذكر منها مشهدًا واحدًا فقط.
روى طاهر قصة حكمت أبو زيد، وهي أول وزيرة في مصر، وقد استلمت حقيبة الشؤون الاجتماعية. يقول بأنها استلمت منصب الوزارة وظلت في منزلها لمدة شهرين تحاول التحضير لمهمتها الجديدة. بغض النظر عن تقييم كفاءة هذا التصرف، فإن ما لفتني هو استهزاء الموظفين بها بالقول "جوزها حلف عليها ما تنزلش"، وكانوا يستعجلون انصرافها من المكتب، بعد أن بدأت العمل رسميًا، بالقول "هة أنتِ مش وراكِ حد تغديه؟". نصف قرن من الزمان لم يكُن كافيًا لمحو الصور النمطية المتعلقة بالنساء وأدوارهن في بلادنا، والطريف في الأمر أن المجتمع، حتى بعد مرور كل هذا الوقت، يُلزم المرأة بأدوار وسلوكيات معينة، ويعتبرها مقصرة إن لم تقم بهذا الدور على أكمل وجه، ومن ثم يستهزئ بها للسبب ذاته.
بعد أكثر من خمسين عامًا من تولي هذه المرأة منصب الوزارة، خضت حوارًا مشابهًا مع طبيب النسائية، الذي اعتقد لوهلة بأن الطبيبة التي كنت أزورها قبل المجيء إلى عيادته، لا تجري عمليات الولادة لأنها "امرأة" لا تقدر على مجاراة حالات الطوارئ بحكم ارتباطاتها العائلية، وبأنها، هي والنساء الأخريات، قد اخترن تخصصًا لا يُناسب جنسهن بسبب كثرة حالات الطوارئ فيه. لم يخطر بذهنه قط أنها قد أجرت المئات من عمليات الولادة، وأن ما يمنعها اليوم هو سنها، لا جنسها. لن أخوض هنا في أغرب مفارقة سمعتها في حياتي: نساء يخترن تخصصًا ليس لهن، ألا وهو، سيداتي سادتي، طب النسائية.
أم ميمي
أول ما يلفتك في التعليقات على الرواية أن لغتها بذيئة، وهي كذلك بالفعل، ولكنها بذاءة ليست خارجة عن السياق. يروي الكاتب بلال فضل في "أم ميمي" قصة شاب جامعي قاده حظه العاثر للسكن في شقة لا تصلح للحياة الآدمية، برفقة صاحبتها "أم ميمي"، التي يحار القارئ في وصفها وتصنيفها. بينما ينشغل هو بمتابعة دراسته، يجد نفسه متورطًا في صراعات عائلية بين أم ميمي من جهة، وابنها وابنتها وزوجها السابق من جهةٍ أخرى، والذي ادعت، في صفحة من صفحات الحكاية، بأن الأخير كان يُجبرها على الخروج من بيتها ليستغله في أعمال الدعارة.
في الصفحات اللاحقة، نكتشف أن أم ميمي ليست ضحية وحسب، وإنما قد تكون متورطة هي الأخرى في نفس الكار الذي تظاهرت باشمئزازها منه بطريقة أو بأخرى، ونظل نسأل: من الضحية ومن الجاني؟ وكيف يمكن للإنسان أن يكون الاثنين معًا؟ كلما اعتقد هذا الشاب بأنه رأى أسوأ ما في تاريخ هذه العائلة، اكتشف بأن هناك المزيد، ليظل يفاجئ بمقدار "القذارة"، بينما هم يستغربون من استغرابه، وتستمر القصة في سحبنا معه إلى القاع.
لربما تكون اللغة بذيئة، ولكنها قريبة من الشارع ومن الواقع بحواراتها وشتائمها. أستمتع بكتابة بلال فضل الساخرة، التي يخطئ كثيرون عندما يعتقدون بأنهم يجيدونها هم أيضًا، فهذه سخرية ذكية من تناقضات ومفارقات الواقع، بينما يكتبون هم نكات سمجة تصلح كمنشورات فيسبوكية سهلة التداول.
وأنت السبب يابا
ترسم نوارة نجم في هذا الكتاب صورة مختلفة لوالدها الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، صورة بعدسة ابنة لم تعِش مع والدها كما يجب، ولم يكُن لها أبًا مثاليًا، أو على الأقل، كانت علاقتها معه معقدة للغاية. تقص علينا تفاصيل من حياتهم الشخصية، وتخبرنا كيف ظلت والدتها التي انفصلت عنه، تحاول العثور عليه ليقضي وقتًا مع ابنته في طفولتها. تمامًا كما قلت في تعليقي على كتاب إيمان مرسال، لا شك بأن الكشف عن هذه التفاصيل يتطلب جرأة كبيرة، خصوصًا عندما تتعلق بالحياة الشخصية لشخصية عامة أحبها الناس واعتبروها رمزًا للكفاح في زمنٍ ما. بيد أن اللغة ليست أجمل ما في الكتاب، إذ يشعر القارئ في كثير من الأحيان بأنه أمام منشور آخر على الفيسبوك يستخدم الميمز للتعبير عن الفكرة، والتي وردت بالمناسبة بالكتاب كصور، وهو ما لا أستسيغه شخصيًا، ولكنه قد يكون مُحببًا لنوع آخر من القراء.
Thank you for the book recommendations and synopses Lina 🥰