سقوط الأسد و"حظي مع الصبيان"
لا توجد لحظة، فيما يخص الشأن العام، تستحق الاحتفال في هذا العام الفائت كلحظة قراءة الأخبار العاجلة على هاتفك، والتي تعدّدت صيغها ومفادها واحد: الأسد قد سقط. هكذا وبكل بساطة، بعد سنوات طويلة من قيام الثورة السورية، بعد أن توقف العالم عن تعداد الشهداء الذين دفعوا ثمن هذه الحرية، وبعد أن سلّم الجميع تقريبًا بالأمر الواقع.
لطالما كانت سورية قريبة جدًا منا، وكان مصابها مصابنا. بالنسبة لي شخصيًا، لدي ذكريات كثيرة عن رحلات اليوم الواحد إلى سورية، وذكريات أكثر للحظات جمعتني بلاجئين سوريين التقيتهم لغايات مهنية وشخصية، فسمعت منهم عشرات القصص عن الوطن المنهوب ورحلة اللجوء الطويلة والتحديات التي واجهوها في البلدان المضيفة، وكلها تُروى بحس فكاهة لا تؤثر فيه مأساوية الأحداث الدائرة من حولنا، حس فكاهة يذكرني بإجابة أحد الأشخاص على سؤالي قبل أكثر من عشرين سنة (قبل أن أعي حجم المأساة السورية بسنوات طويلة حين كنت مراهقة لا تفقه شيئًا)، إذ تساءلت بكل ما أوتيت من سذاجة "ولكنكم تنتخبوه بالإجماع تقريبًا"، فردّ عليّ بكل ما أوتي من غضب مغلف بفكاهة "مزبوط، شنو لأنه ما في منه".
في الأيام الأولى من ثورة الشعب السوري، كان الأردن، بالنسبة لهؤلاء، هو "عمود الكهرباء" المضيء على الجانب الآخر من الحدود، والذي عرفوا بمجرد أن وصلوه أنهم بأمان وأنهم قد نجوا بأرواحهم من موتٍ محتم. في الثامن من كانون الأول 2024، كنت في عمّان، وسمعت المذيع على الراديو في التاكسي يزف الخبر مرة أخرى، ويجري مقابلات هاتفية مع العديد من السوريين. سجلت اللحظة ووثقتها بهاتفي، فكم مرة ستخرج من بيتك لتسمع هذا الخبر بدلًا من شكاوى الناس من انقطاع المياه والكهرباء وتردي الخدمات في بلادك. شعرت بسعادة كبيرة، ولكنني امتعضت من أسئلة المذيع للسوريين الذين كانوا يتصلون بالبرنامج، إذ اتخذ الحوار منحى آخر وراح يستعرض محاسن تجربتهم في الأردن. لا أنكر أن الأردن قدم نموذجًا جيدًا في التعامل مع اللاجئين السوريين، ولكن برأيي المتواضع لم تكُن تلك اللحظة المناسبة لاستعراض محاسن الأردن، بل كان من الأفضل إفساح المجال للسوريين للاحتفال بلحظة طال انتظارها وحسب. تحتفظ ذاكرتي بقصص عشرات النساء والرجال والشباب والشابات السوريين الذين ظلوا يحلمون بمستقبلٍ أفضل حتى بعد أن فقدوا كل شيء تقريبًا، ولكنني أخص بالذكر اليوم سيدتين لن أنساهما ما حييت.
****
واحدة منهما هي سيدة سورية التقيت بها بالصدفة في شمال الأردن، وقد حدثتني عن مجزرة حماة التي وقعت في الثمانينيات من القرن الفائت ولم نكُن قد عرفنا عنها ما يكفي. في أوائل الثمانينيات، قتل النظام السابق عشرات الآلاف من الناس دون أن يتوقف العالم. سألت نفسي حينها "كيف سمح العالم بوقوع هذه المجزرة ومضى كأن شيئًا لم يكُن"؟ للأسف، فإن الإجابة بسيطة وسهلة، فها هي مجزرة أخرى تحدث أمامنا اليوم في غزة بكل سهولة وأريحية، والعالم يمضي، وينشغل الجميع بحياته الخاصة، بمن فيهم أنا شخصيًا، دون أن نستطيع إيقاف آلة القتل.
حدثتني تلك السيدة عن موقفٍ لن تنساه، فذكرت أن أحد أقاربها شهد أم سورية ترجو جيش النظام السابق بألا يقترب من أبنائها وأن يقتلها هي ويتركهم وشأنهم، فقتلهم جميعًا أمام أعينها حتى "تعيش هي وتحكي لكل العالم ماذا يعني أن تكون من الإخوان المسلمين". أخبرتني تلك السيدة أن من أكثر ما يُحزنها هو فقدانها لمنزلها، لكل أثاثه، لما جمعته بتعبها وباشتراكها في الجمعيات حتى تؤمن كل تلك القطع، وذكرت أنها فقدت 14 بطانية سلبها عناصر الأمن السوري من منزلها. ربما يعتبر أحدهم أن ما أبكاها لا يستحق الحزن، ولكنه يعني لها الكثير، وإن تراجعت بعد ذلك وقالت إن المرء لا يجب أن يبكي على حجر حين يموت "شباب مثل الورد".
أتفهم شخصيًا الشعور بالحزن على الذكريات المفقودة، فهذا ما أفكر فيه كلما هبطت الطائرة في عمّان، أو كلما كنا جالسين في الطائرة ننتظر هبوط طائرة أخرى حتى تقلع. أظل أفكر في هذا الوقت في شعور الناس الذين هبطت بهم الطائرة للتو، أفكر فيمن يحلم بتلك اللحظة ولم تُكتب له، في المنفيين واللاجئين الذين يخشون العودة إلى أوطانهم خوفًا على حياتهم. قاسية جدًا تلك الحقيقة، فلندع كل شيء جانبًا، قاسية جدًا حقيقة أن تُحرم من ذكرياتك. أفكر أنهم قد يعودون يومًا فلا يجدون أوطانهم كما تمنوا أو اشتهوا، ربما تكون قد تغيرت، ربما لا تكون بالرومنسية التي تخيلوها، ولكنها ذكرياتهم، وكم هي قاسية تجربة الحرمان من الذكريات، من العودة إلى البيوت والشوارع القديمة ومسارح الذكريات. هذا فقد لا يقل أهمية عن أي شيء آخر.
***
أما السيدة الأخرى، فهي امرأة التقيتها أثناء عملي كمترجمة مرافقة لصحفية أجنبية في مخيم الزعتري للاجئين. كنا قد انتهينا من اللقاءات الصحفية، وأحبت هذه السيدة أن تحسن ضيافتنا، فاقترحت أن تقرأ الفنجان للحضور، وبدأت، لسببٍ أجهله، بكاتبة السطور. كان ذلك اللقاء في السنوات الأولى من الأزمة، فاجتمعنا حولها، رفعت الفنجان وقالت "ما إلك حظ مع الصبيان"، الأمر الذي لم أكن أجرؤ على إنكاره في ذلك الوقت بالذات.
الملفت أننا في مخيم للاجئين، وأننا في وسط اشتباكات مستمرة ما بين الجيش السوري والجيش الحر آنذاك، وأن النساء المجتمعات هناك قد ذقن كل أصناف العذاب في تلك الحرب وفي ذلك المخيم صيفًا وشتاءً، ولكنهن وجدن في تلك اللحظة فرصة مناسبة للضحك والتحقيق معي حول حظي العاثر في الحب. بقيت الحاضرات لدقائق يُحاولن فك اللغز، فطمأنتهن قارئة الفنجان وقالت إن هناك فرجًا قريبًا لي، فارتحن، وتركنها تمضي في قراءة فنجان آخر. لطالما تذكرت ذلك الموقف وضحكت، ضحكت من اللحظة التي جمعتنا رغم الظروف، من حياتي العاطفية التي هونت عليهن عذاباتهن للحظات. لم أفهم كيف ينسى المرء عذابات بهذه الفظاعة ويتفرغ لأمور بهذه البساطة، ثم فهمت لاحقًا أن هذه طبيعة بشرية، وأن الناس يتمسكون بالحياة أكثر عندما تجتمع الأسباب لحرمانهم منها.
ظل حظي العاثر على حاله لسنوات طويلة بعد ذلك اللقاء، وأحسب أن تلك السيدة قد ظلت، هي الأخرى، في مكانها. بيد أنني تذكرتها يوم فرّ الأسد، وقلت في سرّي: فرّ الأسد يا خالة، ربما استغرق الأمر سنوات طويلة، تمامًا مثلما استغرق حظي مع الصبيان حتى "ينعدل". أطمئنها بأنه، وفي اليوم الذي انتهت فيه مأساة السوريين، كانت مأساتي العاطفية قد انتهت منذ سنوات أيضًا. انتصرنا في معاركنا الوجودية يا خالة، فلنستجمع قوانا للمعارك الصغيرة الأخرى. أتمنى أن تكوني بمكانٍ يليق بك، وأن تكون هذه أول الأفراح، لا آخرها!