أجبرتني ظروف شخصية على التواجد في محافظتي الأم لمدة ثلاثة أسابيع أو أكثر وحتى لحظة كتابة مقالتي هذه، شعرت بشعور غريب عندما عدت لنفس الأماكن التي قضيت فيها عقدين من عمري.
كنت بالأمس أسميها "الحبيبة" وفاءً لذكرياتي البسيطة فيها وشخصيتي الحالمة التي لم تكُن قد اكتملت بها بعد ولحظات كثيرة مرت بجانب من أحببت، بل إن أول من أحببت كان فيها!
نظرًا لنفس الظروف، مررت بشوارع كنت أقضي فيها أكثر من نصف يومي لظروف العمل أو الدراسة أو لمجرد قضاء الوقت مع أصدقائي. لم يتغير شىء مطلقًا، هناك بعض المباني السكنية الجديدة وبعض محلات الطعام والملابس فقط، بينما يبدو كل شىء آخر كما هو باستثناء أن البلدة الصغيرة بدأت تستوعب الآن وافدين وزائرين من جنسيات كثيرة نظرًا لوجود الجامعة بها وتوسعها في مجالات الطب والصيدلة منذ سنوات.
مررت بشوارع أعرف بأنني عندما كنت بها لم أكن أعرف نفسي جيدًا ولم أكن أحببتها بعد. شعرت، في شارع "المحافظة"، بحب كبير حيث أمسك أبي بيدي وأخذني إلى الحضانة، وأمسكت بأيدي أصدقائي بعدها في نفس الشارع لنصل لمحل "عصير قصب" لم يتغير به شيء طوال سنين عمري، إذ يبدو طعم عصير القصب لدى هذا الرجل مختلفًا عن أي عصير قصب في العالم وتبدو الحياة على طاولاته كما هي، كأن أحدًا لم يعكر صفوها أبدًا.
تساءلت في البداية لماذا رحلت منذ أكثر من عشر سنوات منها، إذ تبدو مناسبة لحياة أكثر هدوءًا بخلاف العاصمة الصاخبة، كل الشوارع مألوفة بالنسبة لي، ويمكنني قطع المسافة من أول المدينة لآخرها سيرًا على الأقدام في مشوار ممتع للغاية. لم تكلفني أي وسيلة مواصلات بها ما يزيد عن عشرين جنيه. باستثناء العقارات، كل شيء تكلفته أقل من القاهرة بكثير، فلماذا أختار الوحدة بالقاهرة؟ لماذا أنا وحدي هناك؟
لم تكد تمر عشرة أيام في مدينتي حتى تذكرت لماذا تركتها، بل هي التي تركتني في المقام الأول، وكيف كنت أشعر عندما شعرت بالدافع الأساسي لتركها. لم أعُد أشعر بالانتماء لها ولا أستطيع مفارقة صخب المدينة وكثرة الفرص، وأدركت أهمية العزلة التي تنعش طاقتي وتعينني على مسؤوليات الحياة.
أحب عائلتي، وأجد نفسي في قمة ضعفها أتوجه لها، ولكنني لا أقدر على التواصل بشكل يومي مع كل من أعرفهم. لم أعد قادرة على كل هذا القدر من التواصل الاجتماعي الذي أجبرت عليه خلال الظروف الخاصة التي مررت بها، والتي واضطررت للعودة من أجلها. كان جزء من مهمتي طمأنة العائلة الممتدة بخصوص الظرف الذي نمر به، وهذا إلى جانب كوني أنا شخصيًا أمر بالظرف نفسه وأتعامل معه يوميًا. استجمعت كل ما أوتيت من قوة لأحافظ على اللطف والصبر، نجحت تارة وفشلت تارة أخرى في إدارة مشاعر كل من حولي ومشاعري أثناء مشاركة لحظات في غاية الدقة مع أشخاص يعنون لي الكثير وأحب أن أراهم ولكن في ظروف مختلفة وبشكل أكثر اختصارًا.
بعد العودة لمدينتي، اكتشفت أنني لم أعد قادرة على العودة لها أو العيش فيها للأبد. بيد أنني أحبها وأحب ذكرياتي بها، وأشعر بالحب تجاه تلك الطفلة التي لطالما تجولت عاقدة اليدين حول شنطة الظهر لإخفاء ملامح جسدها ولكي تبقى غير مرئية فيها. لم أعد أرغب في الاختفاء قسرًا، بل أريد العزلة بكامل إرادتي.
❤️🍀