رحبوا معي بيوسف!
من يعرفني عن قرب يعرف بأنني كنت أود أن أصبح أماً وبشدة، وبأنني كتبت من الرسائل ما كتبت لأبناء وبنات لم يولدوا بعد واشتريت في بعض الأحيان ملابس تناسبهم قبل أن أقرر بأن هذا التصرف ضرب من الجنون وأتبرع بها.
اليوم، أكتب هذه الكلمات وقد أصبحت أماً بالفعل بعد سنوات طويلة اختلفت فيها كل المفاهيم، سنوات جعلتني أدرك لماذا تأخر تحقيق تلك الأمنية التي لطالما رددتها في سري وفي العلن، فقد كنت بحاجة لهذا الوقت لأشهد تحولاً في الوعي يؤسس لعلاقة أكثر صحة مع هذا الكائن اللطيف.
بادئ ذي بدء، لم تعد الأمومة بالنسبة إلي حاجة ملحة أعوّل عليها للإشباع العاطفي، واستغرق الأمر وقتاً طويلاً لأدرك الفرق بحق بين الإشباع العاطفي الذي أريده وأحتاجه بالفعل وبين ما تقدمه الأمومة. لربما نفقد الأمل في إيجاد الحب الحقيقي من الشريك في لحظات ضعف كثير نمر بها في حياة الرشد، فنعتقد بأنه من الأسلم أن نقدم هذا الحب غير المشروط لأبناء لا نتوقع منهم إيذائنا أو كسر قلوبنا، لأبناء بالتأكيد لن نغني لهم "ملهمش في الطيب" أو على الأقل سيكون احتمال أن نغنيها لهم أقل بكثير.
نحتاج إلى الكثير من التجارب لندرك بأن هؤلاء الأبناء مهما قدموا لن يغنينا وجودهم عن وجود شركاء يبادلوننا الحب والاحترام والاهتمام، بل إننا نظلمهم حين نتوقع منهم ما لم يخلقوا لأجله. نأسرهم في علاقة غير صحية تحملهم أعباء لا شأن لهم فيها سوى أننا اخترنا الطريق الأسلم بدلا من إظهار الشجاعة اللازمة لكي نحب ولا نخشى الخذلان.
هكذا تحولت الأمومة لدي من حاجة ملحة إلى رغبة من الجميل أن تتحقق بعد أن التقيت بمحمد، واكتفيت به، فأصبحت لا أمانع إن تأخر تحققها. هكذا حلت الرغبة محل الحاجة، وشتان بين الاثنتين، لأرى طفلاً يرث من جيناته أكثر مما يرث مني، فيأخذ منه خفة الروح والظل والذكاء في اختيار المعارك وتوقع الأفضل بدلاً من إهدار طاقته وسنوات عمره في التفكير في سيناريوهات لن تتحقق.
جاء هذا الطفل الجميل بعد أن خضت في الحياة من التجارب ما يكفي لأتوقف عن السعي للكمال، وهذا من حسن حظه. لست متأكدة حتى لا يحاسبني لاحقاً، ولكنني لن أجبره على التفوق في الدراسة أو المواهب المتعددة لأكون فخورة وسأحرره من عبء المركز الأول.
لا أريد منه أن يكون استثنائياً، لا يستمتع إلا بالتجارب الاستثنائية، بل أتمنى أن يتعلم الاستمتاع بكل الأشياء العادية التي تحدث كل يوم مثل شروق الشمس وغروبها.
لا أريده أن يحطم رقماً قياسياً في عدد الدول التي يسافر إليها، ولكنني أتمنى ان يسافر بما يكفي، ولا يكتفي برؤية المعالم السياحية، بل يختلط بالناس وينغمس قدر الإمكان في الثقافات التي يصادفها ليفهم بأن العالم لا يدور حوله وثقافته ومعتقداته. أريده أن يختبر رحابة الكون ويدعها تنعكس على روحه.
لا أريده أن يحمل على عاتقه مهمة تغيير العالم، ولكنني أتمنى أن يكون قادراً على التعاطف مع أشخاص لا يشبهونه بالضرورة، رافضاً للظلم حتى وإن لم يقع عليه شخصيا، محباً للعدل حتى وإن أتى على حساب راحته.
هذه هي أمنياتي باختصار: لا أريده ابناً خارقا للعادة، ولا أعده بأن أكون أماً خارقة للعادة طيلة الوقت أو حتى معظمه ولكنني أعد بأن أبذل قصارى جهدي وحسب.
في الرابع من تشرين الأول من العام ٢٠٢٣، كنت قد وصلت إلى هذا الوعي وهذه الاستعدادية فرزقني الله بيوسف، فأهلا به في العالم الحقيقي، وليسامحني لو أخلفت الوعد.