هناك صورة حالمة في أذهان العديد من الناس تُصّور الكتابة كفعل إبداعي تلقائي سيحدث حتماً حين تتم تهيئة الظروف المناسبة، ولربما تكون الصورة على النحو التالي: كاتب يجلس في عزلته بعيداً عن الناس، لربما يسكن في مكان مُلهم يسحره كل يوم بشروق الشمس وغروبها، أو لربما يأتي إلهامه في مقهى عادي صاخب وهو بين الناس الذين يعتبر نفسه منهم.
المهم أن الصورة توحي بأن هذا الفعل تلقائي، حيث ستخرج الكلمات بسرعة تفوق سرعة الكاتب على الطباعة أو الكتابة. للأسف، فإن هذه الصورة حالمة، وتُشبه إلى حد كبير أساطير الحب الخيالية، التي توهمنا بسهولة إيجاد الحب حين تحين اللحظة المناسبة وبأن كل القوى الكونية ستتكاتف لإنجاح قصتنا، وهذا أمر لا يحدث طيلة الوقت لكل الناس، كما بتنا ندرك حين كبرنا، وينسحب الأمر ذاته على الكتابة، فالقصة نادراً ما تتدفق بتلك السلاسة هي الأخرى!
أصبحت أقول ذلك بثقة أكبر بعد أن قرأت كتاب “اختراع العزلة بورتريه لرجل غير مرئي” للكاتب بول أوستر، حيث يعترف من هو أعظم شأناً مني بمئات، إن لم يكُن بآلاف المرات، بأنه اعتقد هو الآخر بأن القصة “ستكتب نفسها بنفسها”، ويقول “في بداية كتابة هذا النص، ظننت بأن الأمر سيكون عفوياً، تدفقاً أشبه بالغيبوية. فقد كانت حاجتي إلى الكتابة طاغية، إلى درجة، جعلتني أظن بأن قصتي ستكتب نفسها بنفسها. لكن الكلمات حتى الآن تخرج ببطء شديد. وحتى في أحسن الأيام، لم أتمكن من كتابة ما يزيد على الصفحة أو الاثنتين. يبدو أنني مبتلى أو ملعون بإخفاق ذهني، ما يمنعني من التركيز على ما أقوم به. مرة بعد مرة، رأيت أفكاري تحتضر على الورق أمامي. وما إن أفكر بشيء حتى يستدعي شيئاً آخر، ثم شيئاً ثالثاً حتى تتراكم أمامي التفاصيل، وتتكثف، إلى درجة أشعر معها بالاختناق. لم أكن أدرك قبل الآن حجم ذلك الصدع بين التفكير والكتابة".
تعزّيني هذه الفقرة كلما عاتبت نفسي على التقصير، وكُلما هيأت كل الظروف لأكتب، واتصلت بالأصدقاء لأودعهم وأخبرهم بأنني لن أراهم عمّا قريب، وإذ بهم يفاجأون باتصال آخر أعلن فيه نجاحي في كتابة سطرين اثنين، لا ثالث لهما، الأمر الذي يستحق رؤيتهم للاحتفال بهذا النجاح!
أدرك أن الكلمات لا تتدفق بسهولة كلما أردت لها ذلك بطبيعة الحال، ولكن ما الذي نخشاه فيؤخرها لساعات وأحياناً لأشهر وسنوات إضافية؟
أعتقد أن أول ما نخشاه ألا تكون الفكرة تستحق الكتابة من الأساس، فبعد أن نتحمّس لها لوهلة، نتساءل إن كانت تستحق بالفعل أن تتحول إلى مقال أو تقرير أو أن كتابة “ثريد” على تويتر حول موضوعها يفي بالغرض. وإن تجاوزنا هذا الخوف، وآمنا بأهميتها، نفكر بها لساعات طويلة، ومن ثم نواجه الشاشة البيضاء فنخشى أن تكون الفكرة أجمل في أذهاننا منها على الورق. أكاد أجزم أن تجاوز هذا الخوف، الذي أعتقد أنه يراود معظم الكتاب، يتطلب شجاعة كبيرة تدفع الإنسان للعمل بغض النظر عن النتيجة، وهي شجاعة يقل تقديرها برأيي.
للمفارقة، في الوقت الذي نخشى فيه من إنتاج ما لا يليق بالتصوّر الذي يسكن مخيلتنا، فإن هناك من يعتقد بأن إنتاج مادة مكتوبة “رائعة” قد يعيق مسيرة الكاتب فيما بعد. في كتابه “اللغز وراء السطور: أحاديث من مطبخ الكتابة”، يذكر المؤلف أحمد خالد توفيق قصة للكاتب فرانك ستوكتون يحكي فيها عن كاتب قصص قصيرة يعتاش ممّا تدفعه له المجلات لقاء نشرها. “في ليلة سوداء” كما يسميها، يهبط عليه الوحي، فيكتب قصة تفوقت على كل ما كتبه، وحازت على رضا القراء ورئيس التحرير، الذي رفع مكافأته عن القصة الواحدة لأجلها، ولكنها كانت بمثابة النهاية له.
من بعد انقضاء تلك الليلة، لم يستطع أن يكتب ما يشبهها من حيث الجودة، ولم يعُد أحد يقبل بنشر أي قصة أخرى حتى لا “يبدّد” مجد تلك القصة. لم يجد الكاتب مخرجاً ليستعيد مصدر دخله سوى إعادة إرسال نصوصه الجديدة بأسماء مستعارة، الأمر الذي نجح لأنهم لم يقارنوا تلك الأعمال بـ”رائعته” فنشروها، واستمر. إنها عقدة “العمل المدمر” الذي يعرفه كل فنان برأيه، والذي “يحرق كل عمل تالٍ بنيران المقارنة، بعدها لا يبتلع القارئ أو المُشاهد أي عمل آخر: أنتَ لم تقدِّم بعد ما يقترب من روعة العمل كذا.”
أرجو ألا يُساء فهمي، فالمثال الذي أوردته يأتي من عالمٍ بعيد، ولا يخشى أمثالي من أن تكون نهايتهم على يد “المجد”، بل على يد “الفشل”، وإن كانوا ممّن يحملون جنسية بلاد شرق المتوسط، فلديهم قائمة طويلة من القيود التي يدربون أنفسهم، للأسف، على مراعاتها. أذهانهم مليئة بالتهم، هذه كلمة تثير نعرة دينية وتلك عنصرية، هذه تسيء لدولة شقيقة وتلك لدولة يُفترض أن تكون عدوة، ولكن ما أدرانا، والقائمة تطول. قد تتخلى عن الفكرة كلياً، أو تستبدلها بنسخة أكثر قبولاً لدى المجتمع والحكومة في الدولة التي وُلدت بها دون علمك ومن ثم اخترت البقاء فيها عن قناعة في زمنٍ سحيق.
بغض النظر عن كل ما سبق، تظل حاجتنا إلى الكتابة ملحة. بالنسبة لي، أستمتع بالفعل ذاته حتى وإن كنت أكتب مراجعة لخدمة ما، أو رسالة نصية لصديقة مقربة مليئة بالفواصل والنقاط والجمل المعترضة (نعم، على تطبيق الواتساب)، فتظل حاجتي ملحة وإن كانت تعذبني كما تعذب آخرين.
أشعر بالحاجة إلى الكتابة أحياناً كعلاج، كما وصفتها لي المعالجة النفسية ذات يوم، فمجرد محاولة وصف ما تمر به تُشعرك بالخفة التي تصلي من أجلها، وأحتاجها أيضاً لمعرفة أين أقف من قضية ما، فأسرد كل الحجج التي قارعتها أثناء المشي أو قيادة السيارة في سري أو في حوار عابر مع غرباء أو مقربين، فتساعدني الشاشة حينها على الميل بالاتجاه الذي يريحني بعد عرض كل الاتجاهات، وأحتاجها بالطبع لممارسة عمل اخترته ومحاولة نقل الواقع الذي أشهده علّه يتغيّر بتراكم الكلمات!
لكل تلك الأسباب، أعتبرها تارة بمثابة دواء قد لا يشفي ولكنه يخفف الألم، وتارة بمثابة صورة جميلة تلتقطها للحظة توّد أن تخلدها للأبد. قبل فترة قصيرة، وقعت عيني على نص للصحفية والمذيعة سايما مير، والذي ورد في كتاب يجمع تجارب نساء مسلمات من مختلف الجنسيات اسمه “It’s not about Burqa” (ليست مجرد برقع). في هذا النص، تخوض مير في تفاصيل نشأتها في عائلة باكستانية مهاجرة، وزواجها وطلاقها مرتين، وتذكر الكثير من التفاصيل الحميمة التي توّد أن يطلع عليها ابناها من الزواج الثالث يوماً ما ليعرفا أن الإسلام أعطى المرأة حق اختيار شريكها والانفصال عنه لمجرد أنها لا تحبه، على حد تعبيرها. ما لمسني بالفعل هو جرأتها في سرد تلك التفاصيل باسم حقيقي، ومن ثم ما قالته في نهاية قصتها عندما شبهت كتابة تلك القصة بالوقوف عارية وسط غرفة مليئة بالمرايا، ولكنها عملية “شافية” جعلتها تدرك وهي تكتب آخر السطور بأنها فخورة بمعركتها.
أحتفظ بهذه الصورة التي رسمتها مير، وأحتفظ بصور كثيرة للشاشة أخذتها حين لمحت شخصيات عظيمة تعترف بفشلها في العلن، لا لـ”أمسك عليهم ممسك” مثلاً، ولكن لأذكر نفسي والآخرين حين نتعثّر بأن كل ما نمر به أمر طبيعي جداً في عملية ولادة صعبة ومرهقة ومذهلة في آنٍ واحد اسمها “الكتابة".
اليوم، أشارك في إطلاق هذه المدونة مع صديقتي مي، صاحبة العقل النيّر والقدرة الهائلة على تحمل تكراري لأفكار مبعثرة في نقاشات لا تنتهي. لا تمل هي الأخرى من محاولة فهم العالم بواسطة الكتابة، ولذلك أعتقد بأن وجودها سيُشجعني على الالتزام وإطلاق الأفكار التي ظلت حبيسة الأدراج لسنوات طويلة. ها انا أبدأ معها مجدداً بمشوار جديد أتمنى أن يقودني لكل ما لم أصل إليه بعد في العالم الخارجي وعالمي الداخلي على حدٍ سواء!