٣٦ عاماً من التجربة والخطأ
في أيلول الفائت، أتممت 36 عامًا من الوجود، أو كما أحب أن أسميها من "التجربة والخطأ". أشعر بالذهول كلما تأملت في كم التغيرات التي طرأت على حياتي والأفكار التي تغيرت وكنت أحسبها ثابتة لا تتبدل. اليوم، أدرك أن الجاهل هو الذي لا يتغير، فهناك مقولة أحبها كثيرًا مفادها أنك إن لم تشعر بـ"الخزي" من ذاتك كما كانت قبل أعوام قليلة، فهذا يعني أنك لم تعِش بما يكفي، أو لم تختبر نموًا كافيًا في حياتك.
أسرد في هذه المدونة خلاصة التغيرات التي مررت بها في السنوات الأخيرة احتفالًا بمرور عام آخر على الأرض:
أولًا: لم أعُد أربط قيمتي الشخصية بما أصنع. لطالما كانت الكتابة جزءًا أساسيًا من هويتي، وكنت، بطريقةٍ ما، أربط بينها وبين قيمتي كشخص، فكنت أصاب بحزن كبير إن تعرضت للفشل فيها أو سمعت انتقادًا لاذعًا لكتابتي. أما اليوم، فلم أعُد أشعر بهذا القدر من الحساسية تجاه الأمر، فمن الممكن أن ينتقد أحدهم كتابتي أو أن أفشل في عملٍ ما دون أن أشعر بأنني أصبحت بلا قيمة. أصبحت أتلقى انتقادات على طريقة تفكيري دون أن أشعر بتهديد وجودي يُنذر بهدم كل شيء من حولي.
بعبارة أخرى، أصبحت هناك مسافة فاصلة بين ما أكتب ومن أكون، ومن الممكن أن أظل جديرة بالحب حتى لو كنت كاتبة سيئة، بل من الممكن أن أظل أمارس الكتابة حتى وإن لم تُعجب أحدًا. لم يعُد الهدف هو إرضاء أي شخص على الإطلاق، وهذا ما يجعلني أجرب للمرة الأولى منذ سنوات طويلة شعور الكتابة لأجل الكتابة.
هكذا أصبحت أكتب دون أن أسعى إلى الكمال، وأدركت بأن لي، كفرد في هذا العالم، قيمة كبيرة وأشخاص كثر يحبونني لأسباب كثيرة لا علاقة للكتابة بها من قريب أو بعيد. وحتى أكون صريحة مع القارئ، هذا لا يعني أنني لا أبالغ في الإعجاب بذاتي كلما كتبت سطرين اثنين، فما زلت أشعر بالنشوة وأكرر على مسامع الأصدقاء المقربين أنني "كاتبة عظيمة" ولكنهم لم يكتشفوا ذلك بعد، فهذه العادة لم تتوقف. أما ما اختلف بالفعل هو أنني أصبحت أتعامل بمرونة أكبر مع التعليقات السلبية أو الطلبات المتكررة من المحررين لإجراء تعديلات.
قبل فترة قصيرة، كتبت نصًا قصيرًا جدًا حول "خيار الرضاعة الطبيعية"، وأشرت فيه إلى التدخلات غير المنطقية من أشخاص لا يجب أن يكون لهم رأي في مسألة الرضاعة، مثل المعارف، والعمال الذين يقدمون خدمة ما للأم ويرونها تقدم حليبًا صناعيًا فيعلّقون على الأمر. انهالت التعليقات على النص، فشتمتني وشتمت الموقع الذي نشر النص، بل واتهمتني بأنني أم سيئة وأنانية، ووصل الأمر بالبعض للتساؤل حول أهليتي للإنجاب أساسًا. لربما كانت هذه التعليقات لتؤثر في بشكل أكبر في السابق، ولكنني قرأتها وانزعجت، شعرت لوهلة بشعور "الاغتراب" لمجرد تعبيري عن أفكار مختلفة، ويا ليتها تستحق كل ذلك. بيد أنني لم أعد للصفحة ولم أطلع على بقية التعليقات التي كانت تتزايد. لم أشعر كما شعرت في زمنٍ ليس ببعيد بأنني في معركة تفرض عليّ الدفاع عن نفسي، فقيمتي كشخص لم تكُن على المحك.
ثانيًا: لا شيء يظل على حاله. لم أعتقد أن بإمكاني أن أعيش كل تلك الأيام بعيدة عن عمّان، ولكنني عشت. لم أكن أتصور أن بإمكاني تكوين صداقات جديدة في مكان جديد أبدأ فيه من الصفر، والحقيقة أنني لم أكون صداقات كثيرة بالفعل، ولكن هذا لا يوقف حياتي. الحقيقة أنني تصالحت مع فكرة مهمة: لن تحب ما تحب طيلة العمر.
تصالحت مع فكرة أن الأشياء والهوايات والنشاطات التي كانت تشعرني بالمتعة لم تعُد ممتعة لي بالدرجة ذاتها، وهذا مقبول. هناك أماكن كثيرة كنت أحب أن أتجول فيها في السابق، ومنها وسط البلد في عمّان على سبيل المثال، ولكنني لم أعُد أحتمل قضاء وقت طويل فيها بوجود طفل تعيق عربته حركة المارة، فيمتعضون وأمتعض، وأقرر أن أغادر سريعًا بعد أن كنت، في زمنٍ ليس ببعيد، لا أمانع بقضاء ساعات المساء كلها هناك.
لربما أحتاج إلى مساحة شخصية أكبر، ولكنني بالفعل لم أعُد أستمتع كثيرًا بوقتي عندما أكون بمفردي كما كان الحال في السابق. كنت أسافر بمفردي طيلة الوقت، أما الآن فلم أعُد أستمتع بهذا الوقت وأفضل صحبة العائلة حتى وإن كنت أتوق إلى مساحة أكبر لذاتي. هذا التصالح مهم، لأنني كلما حاولت أن أمارس أي من تلك الأنشطة ولم أصل إلى المتعة ذاتها شعرت بإحباط إلى حدٍ ما، ولكنني وصلت إلى هذه القناعة: لربما أصبحت أحب أشياء أخرى بالفعل، وما العيب في ذلك؟
ثالثًا: كم كنت ساذجة حين فكرت بالأمومة بطريقة رومنسية للغاية! نعم، أعلم أنني سمعت كل هذا الكلام في السابق وأكثر، وعليه، فإنني أتراجع عن أي شيء قلته بهذا الخصوص. قلت إنني لن أشعر بالضجر على الإطلاق، وها أنا على حافة الجنون. قلت إنني سأكتفي بهذه الهدية من الله ولن أطلب أي شيء آخر، والحقيقة أنني أقدر هذه الهدية للغاية، وأحب يوسف حبًا لا يضاهيه أي حب آخر، ولكنني أريد كل شيء. نعم، أنا أريد كل شيء بالفعل: الأسرة السعيدة، وحب الشريك والوقت الجميل معه، والوقت الممتع مع الأصدقاء، وهواياتي التي ما زالت على حالها مثل الخروج إلى الهواء الطلق وممارسة الرياضة والقراءة والكتابة والسفر والعمل بالتأكيد. قلت إنني أعمل بشكل مستقل وهذا سوف يساعدني على الموازنة بين الأمومة والعمل، والحقيقة أن هذا غير ممكن على الإطلاق دون وجود مساعدة إضافية، فكونك تعملين من المنزل لا يعني أنك لا تعملين، واتضح لي كم هو مستحيل أن يسمح لي وجود طفل في المنزل بالتركيز لأكثر من نصف ساعة. هذا لا يقلّل من جمال التجربة، ولكن ما أريد قوله هو أنني كنت أسمع بهذه التحديات وأظن أنني سأتعامل معها وأتجاوزها بسهولة أكبر، ولم أكُن أعي بالفعل مقدار الجهد الذي تتطلبه.
على مدار 36 عامًا، تحمست لأفكار كثيرة، ومن ثم لم تعد تعنيني على الإطلاق. تهورت، وتبعت حماستي حتى النهاية ثم ندمت، تصرفت بحماقة ومن ثم عُدت إلى صوابي، وهكذا دواليك. بيد أن هناك اكتشافًا واحدًا هو الأهم، فقد حسمت أمري فيما يخص السؤال الملح: هل الحلو ما بيكملش أم بيكمل عادي؟
لسنوات طويلة، ولربما كانت طويلة أكثر من اللازم، ظللت أؤمن بأن الإنسان لا يمكن أن يشعر بسعادة كاملة، فلا يمكن أن تسير كل جوانب حياته على ما يُرام في وقتٍ واحد، ما يعني أن "الحلو ما بيكملش". كنت أستقبل المنغصات وكأنني كنت أنتظرها لأؤكد صحة هذه المقولة، ولكنني اكتشفت أن الأمر متعلق بفهم قاصر في بعض الأحيان لشكل هذا "الحلو" وخصائصه ومتعلق أيضًا بشعور عميق لدى الإنسان بأنه لا يستحقه من الأساس.
بينما كنت أتجول هنا في القاهرة في متجر للملابس محلية الصنع، لمحت تصميمًا كُتب فيه "الحلو بيكمل عادي"، فاشتريته على الفور ليوسف. قد يبدو للعابرين كلامًا بلا معنى، ولكنه لمسني وذكرني بكل تلك السنوات التي قضيتها أنتظر المنغصات كمن ينتظر شيئًا مؤكدًا. الحقيقة أنني، ولله الحمد، عشت لحظات كثيرة شعرت فيها بالاكتمال التام، شعرت فيها بأن "الحلو بيكمل عادي" بخلاف ما كنت أظن، وإن كان هذا الشعور مؤقتًا لا يدوم. من هنا، تعلمت أن هذه السعادة الخالصة ممكنة، ولكنها ليست دائمة. يقول ألان دو بوتون في كتابه "دروس الحب" واصفًا لحظة كهذه يمر بها بطل قصته "السعادة الكاملة لا تأتي إلا على هيئة وحدات صغيرة تتراكم شيئًا بعد شيء، ولعلها لا تدوم أكثر من خمس دقائق في المرة الواحدة. هذا ما يتعيّن على المرء أن يقبض عليه بيديه الاثنتين، وأن يتعلّق به". وعليه، أشاهد يوسف وهو يرتدي التصميم، وأفكّر: لو اكتمل "الحلو" لنصف ساعة لكفانا.