"ماتقوليش يا دكتورة".. على طريقة مها عمار في فيلم حرامية في كي جي تو، "ماتقوليش يا أمورة"، أرد على صديقي السكندري الذي يمازحني دومًا بتعليقه على منشوراتي على السوشيال ميديا مذكرًا إياي بأنني "دكتورة". لسنوات طويلة ظللت أرفض هذا اللقب وأرفض كل ما ومن يذكرني به.
في البداية أود أن أذكر أن كتابة هذا المقال لم تكن لتأتي دون تشجيع صديقتي لينا على كتابته. بل أنني حاولت الهروب مرارًا وظللت في تأجيل كتابته لأسابيع متتالية حتى تمكنت من كسر هذا الحاجز والبدء في المقال.
بعد خمس سنوات من دراسة الصيدلة، تخرجت بمعدل جيد جدًا مع مرتبة الشرف رافعة راية الفخر في العائلة. بعدها عملت في المجال لخمس سنوات حتى أصبحت مديرة في إحدى سلاسل الصيدليات الشهيرة. لكن لطالما شعرت أن قلبي في مكان آخر طيلة هذه السنوات. كنت أشبه من يقف على الضفة الخطأ من النهر، يشاهد من بعيد الضفة الأخرى تشير إلى وجود حياة تنبض بالحركة والشغف والمعاني وكل ما افتقدته في الضفة التي أنا عالقة فيها.
وفي لحظة من الزمن، قررت أن أعبر. بالطبع، رحلة العبور هذه لم تكن ممهدة ومفروشة بالورود، بل يمكن كتابة عشرات المقالات عن هذه الرحلة فقط، لكنها ليست محل تركيز هذا المقال. المهم أنني عبرت. عبرت ولم ألتفت إلى الوراء أبدًا. وبدأت مشواري الصحفي الذي يمتد الآن لأكثر من عقد من الزمن بين الدراسة والعمل وحتى التدريب الصحفي.
لكن عبوري لم يكن كافيًا.لم أكتف بالعبور فقط. قررت أن أقطع الجسر وراءي تمامًا. حذفت كل ما يتعلق بالصيدلة من سيرتي الذاتية وأنكرت كل ما يتعلق بخبرتي العملية فيها. لم أذكرها في مقابلات العمل ورفضت كل المقترحات بالعمل في الصحافة العلمية أو الطبية، وكأننى أخاف أن يبتلعنى هذا العالم القديم مرة أخرى لو فتحت له بابًا صغيرًا. حتى اليوم، ما زلت أرفض دخول أي من الصيدليات التى عملت بها سابقًا خشية أن يتعرف عليّ أحد العاملات/ين هناك، وكأن هذا اللقاء سيعيدنى فجأة إلى حياة لم أعد أنتمى إليها. هربت من الماضي وظللت أنكره وكأنني أنفي تهمة ما عن نفسي. حذفت عشر سنوات من حياتي هكذا بجرة قلم وكأنها لم تكن يومًا جزءًا مني.
الآن وبعد كل هذه السنوات من العمل الصحفي بدأت في إعادة التفكير في الأسباب التي جعلتني أتمسك بهذا الرفض التام لمجرد حتى ذكر لقب "دكتورة" ولو حتى على سبيل المزاح. وأدركت أنني كنت أبحث عن هوية جديدة تمامًا، هوية أصيلة، تخصنى وحدى. استغرق الأمر مني سنوات طويلة حتى أخرج من عباءة "الدكتورة" التي بدلت الطريق في منتصفه إلى الصحفية التي اختارت مهنتنها ولم تدخر جهدًا لتكون جزًا منها دون أي شوائب من ماضيها تعكر هذا الواقع. رفضت أن أكون الدكتورة التي تمارس الصحافة كهواية مثل العديد من الزميلات والزملاء، بل أردت أن أكون صحفية، وفقط صحفية.
مؤخرًا، بدأت أستعيد هذا الجزء من رحلتي بتعاطف أكثر. لا لأننى ندمت، بل لأننى أدركت أن تلك السنوات، مهما حاولت أن أنكرها، فهي لا تزال جزءًا أصيلًا مني ومن رحلتي، ولا يجب أن أتعامل معها كوصمة أو عبء. بل بالعكس، رحلة عبورى نفسها كانت بحد ذاتها مغامرة شجاعة تستدعي أيضًا الفخر بها.
أيقنت أنني بدأت التصالح مع هذا الماضي عندما عرفت نفسي مؤخرًا في إحدى التدريبات الصحفية التي أقدمها بأنني صحفية لكنني درست العلوم الصيدلية يومًا ما. بدون خجل، وبدون اعتذار، وبدون محاولات لإخفاء الماضي. كان هذا الاعتراف مريحًا إلى حد بعيد.
المفارقة أن خلفيتي الطبية، قد فادتني كثيرًا بالفعل خلال عملي الصحفي، حيث أن العديد من قصص النساء التي أعمل عليها تستدعي بعض المعلومات الطبية أو التحدث مع طبيبات أو أطباء بشأن موضوع القصة، وهو ما أجد نفسي أمارسه بسهولة دون تعقيد أو الحاجة إلى الكثير من البحث. فأتمكن من صياغة الأسئلة وإدارة الحوار بمنتهى الأريحية فقط بسبب خبرتي السابقة. وربما كانت هذه هي البذرة التى نبت منها اهتمامى بجسد المرأة، وصحتها، وحقوقها، وإن كان هذا الاهتمام قد تطور اليوم بشكل مختلف تمامًا وأكثر تحررًا.
لا أنكر أننى ما زلت أتحفظ على لقب "دكتورة" خاصة في التجمعات العائلية التي ما زالت ترفض تغيير مسار حياتي. لكن ما أستطيع قوله اليوم بثقة أن انتقالي من الصيدلة للصحافة لم يكن مجرد قرار مهني، بل كان فعل مقاومة. مقاومة لنظام يفرض علينا مسارات محددة بناءً على مجموع درجات أو توقعات مجتمعية. مقاومة لفكرة أن "النجاح" يعنى الاستمرار في طريق بدأته حتى لو لم يعد يشبهك. ومقاومة لخوف داخلى ظل يهمس لي بأننى إن عدت أو اعترفت، فسوف يتم التشكيك في هويتي الجديدة.
اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، لا أشعر بحاجة لتبرير هذا التحول، ولا لتجميله. بل على العكس، أريد أن أضعه على الملأ كمثال على أن التغيير ممكن وليس له حدود زمنية أو مكانية معينة. والإنكار، رغم أنه قد يكون آلية نجاة مؤقتة، لكنه ليس حلًا دائمًا. أكتب هذا النص لا فقط لأشارك حكايتي، بل لأذكر كل من تحاول/ يحاول البدء من جديد، أن التغيير ليس ضعفًا ولا خيانة لماضينا، بل أحيانًا هو أكثر أشكال الصدق مع الذات.
ربما يومًا ما سأنتج قصة عن الفتاة التي درست الصيدلة ثم تحولت إلى صحفية نسوية، تكره أن يناديها أحد بـ"دكتورة"، لكنها الآن تحتفى بهذا الجزء من ذاتها.
رائع ومميز وصادق ومفيد ..
أنا كذلك طبيب في اختصاص الجلدية والتجميل.. وقصتي مشابهة إلى حد كبير