صوت داخلي يكلمني: لو اتخذتِ القرار قبل تلك اللحظة، لربما كان بإمكانك أن تحصلي على فرص أكثر للعمل والتعلم، بل وحتى لجني قدر أكبر من المال. أتعرفين؟ حتى لو لم يكُن دخلك أكبر، كان بإمكانك أن توفري ممّا تتقاضينه لو لم تكوني تقيمين في واحدة من أغلى العواصم العربية. قوليها، هل أنتِ نادمة على التعلق العاطفي الزائد؟
***
فليتركوا عمّان كما يشاء كل منهم، أما أنا فلن أتركها. هكذا كنت أرد على كل من كان يتساءل باستغراب عن سبب الإصرار على البقاء في مدينة، لا هي جميلة بصرياً، كما يعتقدون، ولا هي كريمة في فرصها. صمدت لسنوات طويلة، ولم أكن أتابع بجدية أي طلب لدراسة الماجستير في الخارج أو آبه بأي فرصة عمل حتى وإن كانت تدفع أضعاف ما أتقاضاه في مكاني ذاك، الذي اخترت أن أبقى فيه عن قناعة لفترة من الزمن. على الرغم من أنني كنت أسافر كثيراً، ولكنني كنت حريصة على ألا تزيد فترة إقامتي في الخارج عن حد معين، وكأنني لو تجاوزت هذا الحد، لكسرت شيئاً ما في العلاقة بيني وبين هذه المدينة لربما لن أتمكن من إصلاحه مجدداً.
كنت أشعر بالألفة مع المكان. لو سألتني، لقُلت بأنني أحفظ ملابس الأشخاص الذين كنت أصادفهم في الطريق أثناء ممارسة رياضة المشي، وأحفظ وجوهاً أراها من خلف النوافذ ولكنها لا تراني بالضرورة، ولدي شبكة واسعة جداً من الأصدقاء والمعارف ومقدمي الخدمات الذين يعرفونني بالاسم، وهذه ميزة سأدرك أهميتها لاحقاً. كونت في هذه المدينة كل ذكرياتي، وأحلامي وخيباتي الكثيرة أيضاً، حتى أنني كنت أشعر بأنها تُحاصرني أينما نظرت في شوارعها.
بحكم العمل، تجوّلت بين بيوتها، واستمعت إلى عدد كبير جداً من سكانها وهم يروون لي ولأي مستمع همومهم، ومن ثم يختمون الجلسة بنكتة لا يستسيغها إلا من يعيش في عمّان، أي لا يقدّرها إلا من يعرف معنى "الكوميديا السوداء" التي عادةً ما تُمارس بوجه عابس وضحكة ساخرة بأحسن الأحوال.
بيد أن هذا الشعور ببساطة لم يعُد يكفيني، بل إن هذه الألفة التي جعلتني أبقى في المكان كل تلك السنوات هي ذاتها التي دفعتني للتفكير بتركه، كأن كل هذا القدر من الألفة يُشعرني بأنني رأيت كل ما فيها، حتى وإن لم يكُن هذا الشعور دقيقاً علمياً وواقعياً. لم أكُن أبحث بالضرورة عمّا يبحث عنه المهاجرون من أوطانهم، فلم أفكر في تلك اللحظات بخدمات حقيقية مقابل الضرائب، والتأمين الصحي الشامل والتعليم المجاني ذي الجودة العالية، وحرية الرأي والتعبير والأمن بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
كنت أتمنى أن أصل إلى كل تلك الأحلام، ولكنني كنت أعتبرها حقاً لنا جميعاً، وليس لي وحدي، أي أنني كنت ساذجة بما يكفي لأظل أحلم بها للجميع، وأؤجل الخلاص الفردي قدر الإمكان. الحقيقة أن هذه الأحلام، على جمالها، ليست هي التي حركتني نحو التفكير، مجرد التفكير بالسفر، بل ذاك الشعور بأنه لم يعُد هناك، في عمّان، ما يثير فضولي بحق وقلبي يبحث عن شعور ما قد فشلت في العثور عليه فيها.
بعد أن قضيت وقتاً لا بأس به أفكر في وجهات ممكنة، شاءت الأقدار أن ألتقي بشريك غير أردني، فوجدتني أحوّل أنظاري صوب القاهرة، المدينة التي لم أفكر مطلقاً بالانتقال إليها قبل أن أراه. هكذا واجهت سؤالاً مهماً: هل سأترك عمّان بالفعل كونه من الأسهل أن ألتحق أنا به نظراً لطبيعة عملي وقدرتي على العمل عن بُعد؟ هل أقدم على ما قاومته على مدار كل تلك السنين؟
قالوا بأنني سأستطيع كما استطاع غيري، لا يهم كم أنا متعلقة بها عاطفياً، فمن شأن الأيام أن تحل هذه الإشكالية فأعتاد على غيرها ومن ثم أشعر وكأنني غريبة حين أعود إليها. هم قالوها لمواساتي وتشجيعي، ولكن هذا بالضبط ما لم أكُن أريده، يؤلمني جداً أن أعود غريبة في مدينة أمضيت كل حياتي فيها، فهذا شعور أمقته، ولا أريد أن أعتاد عليه. لا أريد مجرد التفكير به، فكيف تُصبح عمّان لا تعنيني بالدرجة ذاتها؟
بيد أنني فعلتها، وانتقلت إلى القاهرة، التي كنت قد زرتها مرات عديدة في السابق. أحبها، وأحب نيلها وأهلها، ولكنها لا تخصّني في شيء، هكذا كنت أقول لنفسي. أمضيت فيها أياماً كثيرة برفقة المرحومة جدتي، حين كنت (يبدو أنها عادة اكتسبتها منذ الصغر) أراقب الشمس حين تغيب وأحمّلها أمنيات كثيرة، وأستمتع بمراقبة انعكاسها على أمواج البحر أو النيل أو أي مسطح مائي. أعني لا بأس بها، ولكنها ليست تونس مثلاً، ولا المغرب، لا تناديني من أبعد نقطة فأعود متلهفة للقائها كمدينة سوسة في تونس أو طنجة أو مراكش في المغرب، كأنها محطة، مساحة جميلة إلى حدٍ ما ولكنها لا تمسّني. أصبح لي فيها شريك وعائلة جديدة، وذكريات كثيرة بدأت بالتشكل، ولكنها تظل مسكناً، لا أكثر.
عندما زُرت عمّان بعد أن تركتها بفترة وجيزة، شعرت بأنني لا أقوى على العودة إلى حياتي السابقة، ثمة شيء ناقص وأنا في قلب عمّان، ثمة رفيق ليس فيها، فلم يعُد لأي شيء فيها نفس المعنى. سألوني "هل اشتقتِ للقاهرة"، فقُلت "بل لمحمد وحسب". لو انتقل محمد إلى أي مكان آخر، لما عنت لي القاهرة شيئاً.
في كل مرة كنت أزور عمّان، كان هناك شعور بدأ يترسخ أكثر فأكثر، كأنني أزور الجامعة أو المدرسة، التي أمضيت فيها سنوات جميلة، ولكنني تخرّجت وما عاد وجودي فيها بنفس السياق يعنيني، وقد آن لي أن أفتح قلبي لمدينة جديدة دون الحكم عليها مسبقاً.
هكذا بدأت أفتح قلبي للقاهرة، أحاول أن أراها بعين المقيمة تارة والسائحة تارة أخرى، وأحاول أن أفهمها وأفهم ما يحدث فيها. لا أعامل معاملة الغريبة بتاتاً، على الرغم من وضوح ذلك في لهجتي، التي أحاول عبثاً مداراة اختلافها في الحوارات القصيرة التي لا أريد لها أن تمتد، ولكنها تفضحني على الدوام، فأبدو بالضبط مثل عاملي المتاجر السورية، الذين يُحاولون إقناعي بشراء شيء ما بلهجتهم المصرية الممطوطة على الطريقة الشامية، فأقول بكل بساطة "يا أخي أنا من الأردن أصلاً، تغلبش حالك".
صحيح أن أحداً لا يُشعرني بأنني غريبة، ولكنني ما زلت أتوه في الشوارع التي أزورها باستمرار، ويصعب علي التنقل في مدينة يستغرق الانتقال من نقطة إلى أخرى فيها نفس مدة الرحلة من عمّان إلى إربد، ويؤلمني أن يتم التعامل مع غضبي المشروع بعد تلقي خدمة سيئة باستخفاف أحياناً، لا لسوء النية، وإنما ببساطة لأن الشخص المقابل لا يفهم ما أعنيه عندما أتحدث بسرعة بلهجة يعتقد أنه يفهمها ولكن يتضح فيما بعد بأنه يفهم نصف ما أقوله فقط، ويزعجني بالطبع بأنني أجد قلة قليلة من الناس الذين يعذرون جهلي بـ"كوميديا الإفيهات"، ويتفهمون "الكوميديا السوداء" التي اعتدت عليها بحكم النشأة.
لم تعُد القاهرة مُجرد مسكن، ولكنها ما تزال بعيدة جداً عن موقع عمّان في قلبي قبل أن أتركها. لربما تُصبح بذات الأهمية يوماً ما، فلم أعُد أجزم باستمرار شعور أو موقف منذ زمنٍ طويل، والأهم أنني مدينة لهذا الانتقال بالكثير، فقد حدث تحوّل أحسبه إيجابياً عندما كسرت التعلق الزائد بأي مكان. أذكر بأنني بقيت في مدرسة واحدة طيلة فترة دراستي، وسكنت في منزل واحد لأكثر من 25 عاماً، وقد كنت شديدة التعلق بالأماكن حتى كدت أؤمن بأنني لا أقوى على العيش إلا فيها، ما حرمني الكثير من فرص النمو الحقيقية.
***
بالعودة إلى صوتي الداخلي: لستُ نادمة كما تعتقد، فقد عشت ما يكفي من التجارب، على المستويين الشخصي والمهني، التي لا أقدرها بثمن في عمّان، ولكنني ممتنة لهذه الخطوة التي أتت قبل فوات الأوان، فجعلتني أكثر مرونة نحو المستقبل وأكثر انفتاحاً على الوجهات اللانهائية الكامنة فيه!
Beautiful and happy to read that you have a special love for Tunisia. Indeed, we're meant to move.
قل سيروا في الارض