منذ شهر تقريبًا أنهيت قراءة كتاب ثلاثيّة غرناطة لرضوى عاشور. لم أُنهمك في قراءة كتاب بهذا الشكل منذ مدّة طويلة. فقدتُ شغف إكمال قراءة الكتب منذ العام الماضي؛ أبدأ في كتاب ولا أكمله، يرهقني، فألجأ إلى كتابٍ حدّثني عنه أحدهم، ثمّ يُتعبني هو الآخر، فتجدني قد اقتنيتُ كتابًا جديدًا صادفني عنوانه في فيديو على منصّة اليوتيوب أو الإنستغرام (محترفة تسويق تقع في فخّ التسويق). هكذا كان تشتّتي مع الكتب هذا العام.
لكن رواية ثلاثيّة غرناطة أحيت في نفسي إيناس ذات التسع سنوات التي لا تستسلم للنوم إلا وقد عرفت ما سيحدث لأبطال القصّة. العنوان أعرفه منذ أعوام، وكنت أنوي قراءته، خاصّةً بعد رحلتي إلى الأندلس مع والدي، أطال الله في عمره. وشاءت الأقدار أن أقتني الكتاب من باريس من مكتبة للكتب العربية. الطريق من باريس إلى مدينتي في ألمانيا خمس ساعات بالسيارة. عينايا لم تتطلّعا إلى النافذة إلا حين همست الفتاة الألمانية بجانبي مُنبّهةً إلى مشهد غروب الشمس الجميل. وحتى غروب الشمس أخذ منّي إلا دقائق قليلة، ثم انغمست مجددًا في صفحات الكتاب.
هكذا أدركني الشوق لمعرفة مآل أبا جعفر، ومريمة، وعليّ وغيرهم من أبطال الرواية. لن ألخّص الكتاب أو أُفضي بأحداثه حتى يتسنّى لك قراءته والعيش معه. فقط سأضعك في الإطار: فالكتاب -كما يشير عنوانه- تدور أحداثه في زمن انتكاسة المسلمين، شبيهةً بتلك التي نعيشها الآن، في زمن سقوط غرناطة.
إحدى تأمّلاتي بعد قراءة الكتاب هي أن الفقد هو القاسم المشترك بيننا. "لكلّ غرناطته"، كما قالت رضوى عاشور. الفقد هو ما يجمعنا جميعًا. الفقد يُجرّد الإنسان من مادّيات الدنيا. إذا فقدتَ موطنًا، فلا موطن غير الله. وإذا فقدتَ عزيزًا، فلا ملاذ إلا الله. وإن فقدتَ مالًا أو متاعًا، فلا رازق إلا الذي لا تنفد خزائنه. وإن فقدتَ نفسكَ وأنت تُجاهدها وتصارع الحياة، فلن تجدها إلا حين تلجأ إلى من خلقها. لكلّ منّا ما فقد، ولكلّ منّا غرناطته وانتكاسته.
رضوى عاشور أبدعت في تصوير التاريخ عبر الرواية. فعلاً، قد ينسى المرء عناوين دروس التاريخ "أوّل روماني وأوّل عربي" التي أملاها أساتذتنا، لكنه لا ينسى حكاية إنسان تعذّب وبكى ورُحّل من دياره، ولو في زمن غير زمانه. لم يكن تصوير معاناة الأندلسيين غريبًا عني، بل استحضرتُ وأنا أقرأ الكتاب كلّ المشاهد التي نراها اليوم أمام أعيننا وعلى شاشاتنا، وما يحدث للفلسطينيين. فما أشبه البارحة باليوم. الأمر الذي جعلني أتذكّر بيتًا شعريًا لتميم البرغوثي -وهو بالمصادفة ابن رضوى عاشور- حين قال:
"فهل ثمّ من جيل سيقبل أو مضى
يبادلنا أعمارنا ونبادله"
فقل لي، يا من تقرأ سطوري... ما هي غرناطتك؟ وكيف تستمدّ أمل إحيائها؟