في مكة رأيت هاجر وعائشة
قبل أن تقرأ، عزيزي القارئ، هذه المدونة، أحب أن أنوّه إلى أنني ترددت كثيرًا قبل توثيق زيارتي لمكة لأداء العمرة الأولى في حياتي، وخِفت من أن يكون فيها شيء من الرياء في أمر على هذا القدر من الخصوصية، ولكن، وبما أنني ما زلت تحت تأثير هذه الرحلة، قررت أن أشاركها بنية التعبير عن امتناني لمن أعادوا لي جزءًا من نفسي في هذه الرحلة.
القاهرة - الرياض
سافرت إلى مكة المكرمة قبل بداية شهر رمضان الكريم لأداء عمرتي الأولى وأنا أحمل الكثير من الأحاسيس الثقيلة، مع أنني أمضيت وقتًا طويلًا أرتب لهذه الزيارة. غير أنني كنت أمر بوقتٍ عصيب، وقد انتهيت للتو من حضور مؤتمر كبير في مدينة الرياض، حيث أثقلت الروح التنافسية العالية قلبي، وأعادت لي ذاك الشعور بأن فرصًا كثيرة في العلم تفوتني. كنت قد تغلبت على هذا الشعور لعامٍ كامل، ولكن رواسب خلافات قديمة كانت قد أثرت فيّ، وكنت أشعر بأنني لست على ما يرام، فسألت نفسي: كيف سأقابل الله غدًا وأنا في مثل هذه الحالة؟
وفي الوقت ذاته، وصلتني رسالة على تطبيق الواتساب من صديقة تهنئنا فيها بقرب قدوم شهر رمضان، وتذكرنا بأن رمضان هو الوقت المناسب لإعادة شحن النفس للعام المقبل. ربما أتى هذا الشهر في الوقت الذي تفاقمت فيه الأمور ووصلت لمرحلة شعرت فيها وكأنني استنزفت بالكامل، فكان هذا الشهر فرصة لبدء مرحلة جديدة من شحن طاقة الإنسان.
شكرًا صديقتي علا، أتمنى أن يكون هناك المزيد من الأشخاص الذين يشبهونك في هذا العالم.
—-
جدة - مكة
في طريقي إلى مكة، استحضرت جزءًا كبيرًا من سيرة النبي وحياته بها وحبه الشديد لهذه المدينة. كنت أحاول أن أراه، وأتخيل نفسي وأنا أخطو في مكانٍ خطا فيه هو بقدمه الشريفة. كانت كل لحظة قوية ومؤثرة حتى عندما كان سائق السيارة المصري والركاب الروسيين الثلاثة الآخرين يحاولون أن يتفاهموا بلغة واحدة، وتدخلت أنا للترجمة للإنجليزية في وقتٍ ما. لم يكفّ سائق السيارة عن محاولة الحديث معى كنوع من الفضول لكوني مصرية أو فتاة، لا أعلم بالضبط، ولم أكفّ أنا عن رسم حدود معه، فقد كنت في عالمٍ آخر، ولم أرغب يومها تحديدًا بتكوين صداقات، فأنا وحدي في مكة، وأريد أن أتخفف من ضوضاء الأصوات في ذهني ولو ليومين فقط.
أعترف بأنني لست ماهرة في التعامل مع الزحام، لذلك، كنت قد تهيأت نفسيًا لأية ضغوط قد تحدث نظرًا لتزايد عدد المعتمرين استعدادًا لشهر رمضان. وبمجرد وصولي إلى الفندق، وضعت حقيبتي، ونزلت سريعًا لأداء عمرتي الأولى، وكنت أشعر بأعلى درجات الفضول والرهبة في آنٍ واحد، وخفت أيضًا أن أفسد إحرامي أو أخسر وقتي.
عندما كنت مراهقة، قرأت مقالة للكاتبة ميسون السويدان، وقد ذكرني بها صديق مؤخرًا. في تلك المقالة، كتبت ميسون عن تجربتها في مكة، وقالت إنها لم ترً الله. في ذلك الوقت، كنت أتفهم أن إنسانًا ما قد يجد صعوبة في إيجاد الله في بيته، بسبب الممارسات والضغط وأمور أخرى كثيرة بحكم التجارب الشخصية. أقدر جدًا ما كتبته ميسون في مقالتها، وكنت قد تأثرت به وتفهمت بعضًا منه، فخفضت سقف توقعاتي فيما يخص التعاملات مع البشر هناك.
العبودية
كثيرًا ما تخيلت معنى الشعائر وأسبابها وقرأت عنها، ولكنني لم أتخيل قط أن العبادة تتطلب الإذعان والتسليم والاكتفاء باتباع سنة النبي وتنفيذ أمر الله خلال الساعتين المقبلتين في العمرة. كنت أنفذ الشعائر لأن الله طلب مني ذلك، لأنني مؤمنة به، لأنني أحبه، لم أختبر معنى أعمق للعبودية طيلة حياتي ممّا شعرت به وقت الطواف.
الطواف
كان وقت الطواف بالنسبة إلي هو الأكثر إرهاقًا نظرًا للزحام والرهبة والأحاسيس المختلطة ما بين الرهبة والشعور بأنني فرد واحد وسط كل هؤلاء المسلمين، فأنا أنتمي إلى مجتمعٍ كبير وقوي. لم أتمالك نفسي حين تخيلت النبي عندما كان يطوف حول الكعبة في وقتٍ كان عدد المسلمين فيه قليلًا. تخيلت شعوره لو عرف بعددنا اليوم، حزنت على فرقتنا وضعفنا وخصوصًا مع الأحداث الأخيرة، بيد أن شعورًا آخر بالفخر سيطر على نفسي.
المساواة
كلنا سواسية، ففي وقت الطواف، لا يمكنك أن تُخمّن من يملك ثروة أكبر من غيره، من الأقرب لله، من المذنب ومن الكريم ومن الجيد ومن المحسن ومن المسيء، كنا نطوف حول البيت، والله وحده يعلم بالنيات ووحده يقبل هذا العمل. منحني ذلك شعورًا عظيمًا بالتحرير والمساواة، وبأنه لا يوجد شخص حولك يمتلك حق تقرير مصيرك بأي شكلٍ من الأشكال، فأنت وغيرك سواسية أمامه. لن أذكر هنا ما سمعت من المعتمرين وقت الطواف باختلاف لغاتهم، إذ أعتقد بأنها لحظة خاصة جدًا، ولكن يكفيني القول إنني سمعت ما يكفي لأدرك أن البشر يستطيعون امتلاك قلبك في لحظة ما عند معرفة نقطة ضعفهم.
السعي
مع أنني لطالما أحببت قصة سيدنا إبراهيم، وكنت أكن حبًا غير عاديًا للسيدتين سارة وهاجر، إلا أنني شعرت للمرة الأولى بامتياز حقيقي عندما كنت في بداية الصفا وأنا أردد "إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ حتى أبدأ السعي. في لحظة واحدة هناك، فهمت إجابة سؤال ظللت أسأله لنفسي طيلة حياتي: ما أهمية المرأة في الإسلام؟ وكيف يرى الله المرأة؟ وماذا عن المساواة؟
في لحظة واحدة فقط، شعرت بأن الله يعطيني الإجابة، وكأنه يقولي لي ما عليك إلا أن تنظري إلى هاجر، التي تقومين بأداء هذه الشعائر الآن تكريمًا لها، أنتِ وكل النساء والرجال من حولك. لم أشعر بالامتياز في حياتي بقدر ما شعرت به في تلك اللحظة، فامتلأت عيني بالدموع، لأنني شعرت بأن الله يجبرني ويجيبني رغم أنني كنت أعرف الإجابة طوال الوقت.
مسجد السيدة عائشة
كنت قد نويت أداء العمرة للمرة الثانية عن روح والدي، رحمه الله، وقررت اتباع النصيحة الأسهل لمن يؤدي العمرة في اليوم الثاني من وجودي في مكة، وذلك لضيق الوقت. ذهبت، كعادة كل المعتمرين، إلى مسجد السيدة عائشة في التنعيم لإعادة الإحرام قبل السفر. كنت قد أجريت البحث اللازم لأعرف ما يكفي عن إعادة الإحرام والمغزى منه، وقرأت قصة السيدة عائشة، عندما سافرت مع النبي في حجة الوداع وهي حائض، وأصابها الإحباط لعدم قدرتها على أداء عمرتها، فطمأنها النبي، وقال لها "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري." عند عودتها من الحج، أعادت عمرتها، فأحرمت من التنعيم وبعدها سمي بـ مسجد التنعيم أو مسجد السيدة عائشة.
هل تبدو هذه قصة عادية؟ لم تكُن كذلك بالنسبة إلي، إذ تذهلني فكرة أن المسلمين مجتمعين يعيدون إحرامهم من مسجد السيدة عائشة اليوم، وأنها هي السبب في رسم حكم من أحكام الحج والعمرة فقط لأنها كانت في فترة الحيض عندما أدت عمرتها. لماذا لم يتم تسليط الضوء على قصة كهذه؟ بالمناسبة، تعني لي السيدة عائشة الكثير، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بدورها كباحثة وليس فقط كزوجة للنبي عليه الصلاة والسلام.
في مكة شعرت بالامتنان الشديد لهاجر وعائشة، لهاتين السيدتين اللتين قدمتا لي نموذجًا آخر من القوة النسوية. لطالما تساءلت عن دوري كامرأة في الإسلام، ومن ثم جاء هذان الموقفان فقط في العمرة ليعيدوا لي القدرة على التواصل مع جذوري وديني، وأشعرني كل موقف منهما بالانتماء. تخيلت بالفعل أنني سألتقي بهما يومًا ما، وأطرح عليهما الكثير من الأسئلة، فهما سيدتان أحدثتا تغييرًا كبيرًا في الحياة، ولكن التاريخ، على ما يبدو، قد نسي فضلهما على البشرية. أحسست بأنني سأقابلهما يومًا ما، إن أراد الله، وأتحدث معهما طويلًا وأحكي لهما كيف رأيتهما في مكة.