صوتي الذي لا يشبه الأخبار.. لكنه يشبهني
الصورة لكاتبة المقال
أتذكر جيداً تلك الأيام داخل غرفة الأخبار التي عملت بها كمنتجة في السنوات الأولى من عملي الإعلامي. كنت أعد التقارير الإخبارية بعناية، أضع فيها كل جهدى وحماسي. لكن حينما تحين تلك اللحظة التي يتعين فيها تسجيل المادة صوتيًا، لم يكن ذلك من اختصاصي. حينها، كانت تسلم المادة التي أعددتها إلى أحد الزميلات أو الزملاء لتسجيلها. ذلك أن صوتي - كما تم إبلاغي عدة مرات، ليس “ صوتًا إذاعيًا” ولا يصلح للتسجيل.
مشاهد الرفض الأولى
لم يكن صوتي يوماً محايداً فى حياتى قط. ذلك الصوت الذي انطلق بأول صرخة عند مولدي وكان أداتي للتعبير عن كل شيء منذ نعومة أظافري حتى الآن. ذلك الصوت الذي وهب الحياة للحظاتي السعيدة والمؤلمة و الحماسية والمطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
غير أنه منذ اللحظة التي بدأت فيها العمل فى المجال الإعلامى، كان صوتى هو أول حاجز واجهته. داخل غرف الأخبار، عرفت أن ليست كل الأصوات تصلح إعلاميًا وأن هناك معايير محددة يجب توافرها في الصوت حتى يكون صالحًا تحديدًا للعمل الإذاعي أو التسجيل الصوتي للتقارير الإخبارية.
نظرًا لاعتيادي سماع تلك الأصوات الرخيمة في الراديو والتليفزيون منذ صغري، كنت أصدق ما يقال أن صوتى ليس جيداً، أننى مهما حاولت فلن أستطيع أن أكون مذيعة، أو أن أسمح لجمهور واسع أن يسمعنى رغم أن لغتي العربية سليمة ومخارج حروفي واضحة، الأمر الذي كنت أظنه كافيًا قبل أن يفاجئني الواقع بعكس ذلك.
مرات، كنت أتسلل خلسة إلى استوديو التسجيل الصوتي. لطالما أبهرني هذا العالم بتفاصيله. الميكروفون والسماعات وجهاز “ميكسر الصوت” بأزرازه الملونة اللا نهائية. كنت أجلس أمام الميكروفون في غرفة التسجيل، أضع السماعات على أذنى، وأمسك بالنص بين يدى، أقرأه بحماس داخلى لكن بثقة مهزوزة. وبالطبع، حينما يدخل أحد الزميلات أو الزملاء إلى الغرفة كنت أتوقف في الحال خشية أن يفتضح أمر صوتي الضعيف الذي لا يصلح لهذا المكان المقدس.
أخرج من الغرفة مثقلة ثم أعود للبيت وأتدرب أمام المرآة، أجرب أن أجعل صوتى أكثر غلظة، أقل دفئاً، حتى يكون صالحًا للإذاعة. تعلمت أنه كلما زال تعبير صوتي عن هويتي، زادت فرصه الإذاعية وبالتالي أن يكون مسموعًا ضمن نطاق أوسع. لكن في كل مرة كنت أحاول أن أتخلى عن صوتي فى محاولة لأكون “مسموعة”. كنت أفقد نفسي أكثر مع كل تجربة.
حاولت مرات ومرات وداخل غرف أخبار متنوعة تنقلت بينها خلال سنوات عملي الإعلامي، وكانت النتيجة واحدة في كل مرة. لكنني رغم ذلك لم أستطع أن أنفصل عن صوتي أو أستغني عنه لصالح معايير جامدة لا أعرف من وضعها ولصالح من. كنت أشعر أن جزءاً منى يُقصى عمداً وهو الأمر الذي لم أستطع التعايش معه طويلًا.
اللقاء الأول مع عالم البودكاست
في عام 2021، قرأت إعلانًا على الفيسبوك حول ورشة تدريبية مكثفة عن البودكاست. كان ذلك مشروع أصواتنا في نسخته الأولى، والذي هدف إلى تدريب أصوات شابة من منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا على تقنيات إنتاج البودكاست. رغم ترددي للتقدم في البداية- للأسباب التي ذكرتها سابقًا- لحسن الحظ، كنت ضمن الدفعة الأولى المشاركة في البرنامج الذي كان بمثابة نقطة التحول الحقيقي في علاقتي مع عالم الصوت.
لم يكن ضمن أسئلة استمارة التقدم أي سؤال عن مدى قوة صوتي أو نبرته. كانت المرة الأولى أشتبك فيها مع جزء من العالم الإعلامي لا يحاول أن يقنن الصوت أو يصنفه في خانة “جيد” أو “سيئ”. كل الأصوات كانت مقبولة ومحتفى بها.
كان شعار المشروع مكون من كلمتين: “أصواتنا هويتنا”. جملة بسيطة في تركيبتها اللغوية لكن معناها كان قويًا بما يكفي لتغيير علاقتي بصوتي إلى الأبد. خلال هذه الرحلة، أدركت أن الصوت ليس مجرد أداة لنقل المعلومة، بل هو جزء من هويتي الذاتية. صوتي هو بصمتي الخاصة في هذه الحياة.
رحلة استعادة صوتي
في الأشهر الأخيرة من عام 2022، وتحديدًا في شهر أكتوبر، أطلقت الحلقة الأولى من “سلمون بودكاست”. المحطة التالية التي شكلت رحلة استعادة صوتي من العالم المحدود الذي وضع له إطارًا جامدًا للإبحار في عالم الأصوات وما يحمله من معانٍ أكبر وأكثر عمقًا.
حين أسست سلمون بودكاست، كان قرارى واعياً: أن أمنح مساحة صوتية لجميع أصوات النساء التي تم إقصاؤها بالمعنى الحرفي والمجازي على حد سواء. لم يعد يهم إن كان الصوت إخباريًا أو إذاعيًا بالمعايير التقليدية لكن ما يهم هو القصة الإنسانية التي يرويها ذلك الصوت. في عالم البودكاست، صرت أؤمن أن الأصوات الحقيقية هى تلك التى تحمل صدق أصحابها، لا تلك التي تصقل حتى تفقد روحها.
اليوم، وأنا أسجل الحلقات، أجلس أمام الميكروفون وأضع السماعات على أذني بنفس الطريقة كما فى غرفة الأخبار، لكن مع الفارق أنني هذه المرة أبتسم وأقرأ السكريبت بثقة أكبر. أسجل جزءًا وأعيد سماع صوتي كما هو. لا تزعجني حدته أو تردده العالي. بل أستمتع بما فيه من دفء وحياة وتجربة إنسانية حقيقية.
بات البودكاست جزءًا مني وأنا جزء منه. أتنقل بين تسجيل الحلقات وإجراء المقابلات والمشاركة في إنتاجات صوتية أخرى وأنا أشعر بالامتنان لوجود مثل هذه المساحات للتعبير ولكل التجارب التي قادتني إلى هذا الطريق.
اليوم، لم يعد صوتي عبئاً ولا عائقاً، بل صار جسري إلى العالم. صار مساحة حرة أعبر بها عن كل ما أؤمن به. وأياً كانت نبرته، فهو يظل جزءاً من هويتي أفتخر به، وأصغي إليه كل يوم بامتنان.




استمعت واستمتعت بحلقة /لا عزاء للنساء/
وصوتكِ كما وصفته: حقيقي. وذاك يكفي يا إسرا