مغالطة "العالم العادل"
قبل سنوات طويلة، قرأت عن تحيزات البشر ومغالطاتهم، فوجدت ما يُفسّر واحدة من السلوكيات التي تتجلى أمامنا بصورة شبه يومية، وهي مغالطة "العالم العادل"، التي تدفع الناس للاعتقاد بأن العالم مكان عادل، وأن الناس يعيشون نتائج أفعالهم بالضرورة.
بعبارة أخرى، فالسلوك الجيد يقود إلى نتائج جيدة دائمًا، بينما يوقع السلوك السيئ صاحبه في دوامة من المشكلات دائمًا، ما يرسم علاقة مباشرة بين أي مشكلة مهما كبرت وسلوك الشخص، ويُحمّله المسؤولية الكاملة أو شبه الكاملة.
وحتى أُقرّب الصورة، أودّ أن أدعو القارئ للتفكير بالأمثلة التالية. كم مرة سمعنا عن فتاة تعرضت للتحرش فبادرت فتيات مثلها بلومها للوهلة الأولى ومقارنة حالتها بحالاتهن وتحميلها الذنب لأنها لم تنجُ كما نجون؟ ربما يقلن إنه كان الأجدر بها ألا تفعل كذا وكذا، أن تنتبه كما انتبهن، فتحمي نفسها من التحرش.
وكم مرة اشتكت أم من سلوك ابنها فسارعت أخريات للومها لأنها لم تُحسن تربيته، ومن ثم بدأن بتلقينها الدروس المبنية على تجاربهن الخاصة؟ يقلن إنه كان من المفترض أن تراقبه كما راقبن أبناءهن، أن تصادقه كما فعلن هن، أو أن تعاقبه عقابًا قاسيًا إلى آخر هذه النصائح التي يعتقد قائلها بأنها السبب في نجاة أبنائه من الوقوع في هذه المشكلات.
وكم مرة أخفق أحدهم في مشروع ما فسمع لوم الناجحين من حوله الذين يذكرونه بأنه كان يجب أن يدرس السوق على نحو أفضل أو توسيع دائرة علاقاته أو المحاولة بطريقة أخرى كما حاولوا هم؟ وكم مرة نسبنا نجاحاتنا الشخصية لمثابرتنا، واعتقدنا بأن الفاشل يستحق فشله لأنه أكسل منّا، ولا يملك مهاراتنا في التعامل مع الحياة العملية؟
لا أقصد من هذه الأمثلة القول إن تقديم النصيحة ممنوع، بل هو أمر محمود ومطلوب لنتعلّم من تجارب بعضنا البعض. بيد أن هناك خيطًا رفيعًا بين المشاركة من أجل التعلم والتعليق على الفشل برسالة مفادها "أنت تستحق ذلك لأنك لم تفعل مثلي، وأنا نجوت بذكائي".
في كتابه "أنت لست ذكيًا إلى هذا الحد"، يصف الكاتب ديفيد ماكريني هذه المغالطة، ويقول إنها تُسمى في علم النفس "مغالطة العالم العادل"، التي تصف الميل إلى الاعتقاد بأن الناس الذين يواجهون المآسي الشخصية، مثل التشرد وإدمان المخدرات، يحصدون نتائج أفعالهم بالضرورة، فلا بد أن يكونوا "قد فعلوا شيئًا ما" ليستحقوا هذا المصير.
يُفسّر الكاتب لجوء الناس لهذه المغالطة على أنه رغبة منهم في "بناء شعور زائف بالأمان"، فالإنسان يحب أن يشعر بأنه يملك زمام السيطرة، فيفترض بأنه بمنأى عن الأذى طالما أنه يتجنب "السلوك السيئ". ويسرد، بطبيعة الحال، عددًا من التجارب النفسية التي تؤكد نزعتنا لممارسة هذه المغالطة، فقد طُلب من أشخاص أن يتظاهروا بأنهم يتعرضون لأذى أمام مجموعة من الناس، وطُلب من هذه المجموعة أن يصفوا هؤلاء الأشخاص، فكانت النتيجة أنهم مالوا إلى وصفهم بصفات سلبية، وكأنهم يبررون ما حدث لهم. وعندما طُلب من الجمهور في تجارب أخرى أن يصفوا أشخاصًا حققوا نجاحات وهمية، مالوا إلى وصفهم بصفات إيجابية، وكأنهم يستحقون ما حققوه بالفعل.
أنا شخصيًا أمارس هذه المغالطة كل يوم. ربما أعرف كيف أتجنبها حينما أمر بقصصٍ لأشخاص عجزوا مرارًا وتكرارًا عن تحسين أحوالهم المادية، فقد أمضيت ما يكفي من البحث لكيلا أحملهم المسؤولية في ظل منظومة كاملة لا تمنحهم أي فرصة للنجاح، ولكنني أمارسها في موضوعات أخرى من باب التسلية أو النميمة أو سمّها ما شئت، ثم أذكّر نفسي بتلك المغالطة، وأهز رأسي معترفة بالذنب الذي اقترفته للتو.
هذه ليست دعوة لأي شخص ليُصبح قديسًا. هذا تذكير بما نعرفه جيدًا، بما أدركناه منذ أن أصبحنا أشخاصًا راشدين: العالم ليس عادلًا، وما يحدث فيه أكثر تعقيدًا من أن يُفسّر بسلوكنا كأفراد. فلنحاول أن نتذكر هذه الحقيقة حين ننجح وحين نفشل، حين نتعثر وحين ننجو، حين نعاني نحن وحين نسمع من يعاني! ربما نتذكرها مرة وننساها ألف مرة، ولكن لا ضير من تكرار المحاولة!