مرحبا! أنا إيناس من تونس و اليوم ألتحق بميّ و لينا لأكتب معهما في مدوّنة على سفر.. تعرّفت على مي و لينا في إطار برنامج للبودكاست و كنت من قرّاء و متابعي المدوّنة أيضا.. أشتغل حاليّا في عالم الأعمال و التّسويق في ألمانيا.. بلغة أخرى في "الغربة" .. عير أنّ الغربة لا تحتاج لعبور الحدود فقط.. قد يشعر المرء بالغربة في بلده أيضا.. أو غربة عن لغته الأمّ مثلما التّي شعرت بها حين عدت للكتابة و هذا ما دفعني لأنضمّ لهاته المدوّنة عَلِّي أُخفّف عن نفسي غربة من الأخرى… الطّريف في الأمر أنّي أحبّ الكتابة في القطار أي على سفر.. خاصّة في رحلة ذهابي إلى العمل الذّي يبعد ساعة عن بيتي، ألتجأ إلى تطيبق "notes” في هاتفي الجوّال لأقتل الوقت و أكتب.
لم يكن الإستقرار في ألمانيا أبدا في مخططاتي بل كانت القّارة السّمراء مقصدي و مُنياي حين كنت أخطّط لحياتي ما بعد الجامعة.. جنوب إفريقيا كانت المُبتغى غير أنّ الحياة سطّرت لي طريقا آخر فمشيته دون تساؤلات كنت أركب أمواج الحياة دون مقاومة أو تفكير.. ربّما هو جمال التّهور أو الاّمبالاة في أوّل العشرينيات و في الأخير هو كما نقول في تونس "مكتوب" و يعني:" ذلك ما كتبه الله لي".. رحلتي مع الترحال بدأت منذ سنّ السّادسة، أمضيت عمري "على سفر" لم أرى في البداية سوى إيجابيّاته، فكرة التنقّل و تغيير الوجهة لم تكن غريبة عنّي، فَبسبب عمل والدي عشتُ في خمس ولايات في تونس، و حين كنت أعمل وأدرس كان أصدقائي ينادونني بإبن بطّوطة نظرا لكثرة تحرّكي من مكان لآخر في اليوم الواحد.. كنت أرى دائما أنّ في الحركة بركة و أنّي خُلقت لأسير في أرض الله الرّحبة.. لم تكن عائلتي قادرة على توفير مصاريف السّفر آنذاك بل عملتُ لأجمع المال في بعض الأحيان و في معظمها كان عملي يتطلّب السّفر.. غير أنّه شتّان بين الاستقرار في بلد آخر غير بلدك و بين السّفر إلى أقطار العالم و بلادك هي بوصلة العودة..
٥ سنوات منذ أن "تغرّبت"… لم أرى في البداية العوارض الجانبية للغربة.. في الواقع، لم أراها إلاّ منذ العام الماضي عندما أحسست و لأوّل مرّة بنوع من الوحشة و الوحدة حين زرت تونس.. رفضت هذا الإحساس في أوّل الأمر.. كيف لي أن أشعر به و أنا التّي تحبّ تونس حبّا جمّا.. كيف لي أن أشعر بالوحدة في بلدي الأمّ.. رَفْضِي للشّعور عمَّقهُ و جعلني أشعر بنوع من الإنفصام عن بلدي، ربّما الوضع الإقتصادي و السّياسي فتح للخيبة بابا على مصراعيه لتسلّل منه و تُعشِّشَ في قلبي.. هذه المضغة التّي إن حزنت حزن البدن كلّه…في ألمانيا لا أسمع صوت الآذان يصدح من مئذنة قريبة.. ربّما هو أحنّ الأصوات إليّ.. حين أزور تونس أشتاق إلى روتيني اليوميّ و إيجاد "نظامي" غير أنّي أكثر اشتياقا إلى صوت أمّي أو أبي ينادي إليّ.. لقد اغرورقت عيناي بالدّموع حين كتبت هذا السّطر الأخير.. كيف لا و غيابي يعاتبني كلّ مرّة أعبر فيها باب الذّهاب في المطار أنّي لم أقض وقتا كافيا معهما.. هذه هي العواقب التّي لم أكن أعي بوجودها حين هاجرتُ.. لم أكن أعي أنّه سيأتي يوم ما لن أشعر فيه بالرّاحة التّامة في تونس ولا بالرّاحة التّامة في ألمانيا.. أدركتُ فيما بعد أنّ حنيني إلى "الشعور بالرّاحة" الذًي اعتدت عليه هو الخلل عينه.. لأنّه في إختياري للبعد، عليّ أن أقبل بشعور جديد تجاه البلدين ألا وهو أنّ راحتي تتراوح بين الاثنين .. و أنّ راحتي تكمن في الترحال ذاته وأنّ راحتي، هي الأخرى، "على سفر" .. فقبلت أنّني حقّا - كما ناداني أصدقائي -"بنت بطّوطة".. ليس الأمر مرتبطا بعبور الحدود بل بحبّ التنقل و الحركة.. و أنّ شعوري بالوحشة و لو في تونس أمر طبيعي بل إنّه من غير الطبيعيّ إن لم يحدث أحيانا.. أجدادنا كانوا رحّالة منذ القدم و قد ألفوا أرض الله الواسعة، أعتقد اليوم أنّ التّرحال جزء في طبيعة الإنسان و أنّ الأرض ملك الله وحده حتّى و إن رسموا لنا حدودا و فرّقتنا الفيزا..
و لو خُيّرتُ مجدّدا لما اخترت نفس التّجربة بالاستقرار مؤقّتا في بلد آخر ما…
و في الأثناء سأكتب بلغتي الأمّ مع مي و لينا و أُحمّل تطبيق الآذان بصوت علي البرّاق كي أسمعه و إن لم يصدح من مئذنة و أُصغي إلى مالوفٍ* (نوع من الفن) تونسيٍّ و ألبس قشّابيّتي في شتاء ألمانيا القاسي حتّى تكون جذوري قويّة كشجر الزيتون في قريتي في عقارب .. فالمهاجر زاده حكايات عن البلاد التّي قدم منها و بها يتمّ حقّ التعارف بين الشعوب و القبائل..
جميل إيناس! ♥️ وصادق جداً يا بنت بطوطة
A good read ❤️ captured an emotion that i believe a lot of us share, what I liked is giving ourselves the permission to accept this feeling and normalise it.