كتب وتأملات (٢)
استكمالًا للمدونة السابقة، أحدثكم هذه المرة أيضًا عن بعض الكتب التي قرأتها. تجدون في السطور التالية أقصر تعليق ممكن على كل كتاب من هذه الكتب:
كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها
قرأت هذا الكتاب للكاتبة المصرية إيمان مرسال قبل أن أصبح أمًا بفترة طويلة، ولكنه ترك لدي أسئلة كثيرة. تتحدث مرسال في هذا الكتاب عن جوانب مظلمة للأمومة مختلفة عن تلك التي نراها سائدة في الخطاب العام، الذي يصورها كفعل تضحية لا ينتهي ولا يترك مجالًا للأمهات للتساؤل أو التعبير عن مشاعر متناقضة.
أعدت قراءة أجزاء منه بعدها، ووجدت النص يُعبّر عن مشاكل الأم الحديثة بدقة، وخصوصًا فيما يتعلق بالأزمة التي يخلقها التدفق غير المحدود للمعلومات. تخبرنا مرسال عن القلق المستمر الذي يولد لدى النساء الحوامل لكثرة ما يقرأن من معلومات حول كل التغيرات المتوقع حدوثها في أجسادهن، والأوزان المختلفة، وتطورات نمو الجنين والمخاطر التي يمكن أن تتسبب بها الأم دون أن تدري إلى نهاية القائمة. مررت شخصيًا بهذه التجربة أثناء الحمل، وكنت بالفعل أشعر بتوتر مبالغ به إلى أن اتخذت قرارًا واعيًا بعد الولادة بتجنب الإفراط في القراءة والبحث، لأنني كنت على وشك الانهيار حين تأخر الجنين في الحركة ذات يوم، ومن ثم شككت بأنه قد توفي فيما يُسمى بـ"الإجهاض الصامت"، فهذا ما قرأته على الانترنت قبل الوصول إلى الطبيب.
تروي مرسال في هذا الكتاب سير مختصرة لحياة أمهات كثر، يعشن صراعًا بين الأمومة التي يريد أن يختزل العالم المحيط هويتهن بها وهوياتهن الحقيقية التي تجمع بينها وبين ذواتهن وأحلامهن ورغباتهن هن. كما تحكي لنا عن أثر الأمومة التي عرفناها من أمهاتنا على أمومتنا نحن، هي التي توفيت والدتها وهي لم تبلغ الثلاثين بعد عملية ولادة لطفل ميت، وتسرد لنا تجربتها في الولادة وما بعدها وهي في كندا، مصابة باكتئاب ما بعد الولادة ومحاطة بنساء أخريات يعشن التجربة ذاتها ولكنها بعيدة كل البعد عن عالمها الأصلي.
ولعل الاقتباس التالي هو الذي تتفق معه الكثير من الأمهات اللواتي أعرفهن اليوم، إذ يذكرهن بأن هذا الشعور الذي يستنزفهن طبيعي، وليست هناك أي أم في مأمن منه: "الأم التي لا تشعر بالذنب تجاه أطفالها، هي تلك التي أتاها ملاك في لحظة الولادة وشق صدرها، استأصل النقطة السوداء التي هي منبع الشر، حرّرها من هويتها السابقة وشفاها من العدمية أو الطموح، تمامًا كما يحدث مع الأنبياء في عملية تجهيزهم للنبوّة". باختصار، أجد بأنه كتاب مهم لفهم هواجس لا تعبّر عنها إلا قلة من النساء بهذه القوة.
ماذا حدث للمصريين
يقدم الكاتب جلال أمين، وهو أكاديمي مصري، تصورات مهمة عن الاختلافات في كل جانب من جوانب حياة المصريين في القرن السابق، من مكانة المرأة في المجتمع إلى ثقافة "المصيف"، ومن هجرة المصريين إلى الخارج إلى تراجع اللغة العربية في البلاد. يجمع أمين في هذا الكتاب بين التحليل الذي يستند إلى مراجع تاريخية وانطباعاته الشخصية المبنية على الملاحظة والمراقبة، عارضًا الفروقات بين حكم الملك فاروق وكل من تبعه من رؤساء حكموا البلاد في النصف الثاني من القرن العشرين.
على الرغم من أنه قد لا يكون من أفضل الكتب التي تشرح هذه التغيرات، إلا أن ما لفتني في هذا الكتاب تحديدًا أن الكاتب يربط بين أغلب هذه التغييرات وفكرة "الانتقال الاجتماعي"، أي قدرة الناس على الانتقال من طبقة اجتماعية واقتصادية إلى أخرى. في الوقت الذي كان هذا الانتقال مستحيلًا برأي الكاتب أثناء فترة الحكم الملكي، أضحى أكثر سهولة في فترة حكم جمال عبد الناصر، وذلك بسبب التوسع في التعليم والأنشطة الاقتصادية. ومن ثم يسترسل الكاتب في وصف السلوكيات الجديدة في المجتمع المصري، التي نتجت وفق تحليله عن صعود اجتماعي أصبح ممكنًا بعد أن بدت الفوارق الطبقية في العهد الملكي وكأنها عصية على الذوبان.
أنا قادم أيها الضوء
لم أكن أتابع ما ينشره الكاتب والصحفي المصري الراحل محمد أبو الغيط، ولكن رحيله بعد معاناته مع مرض السرطان قادني لاكتشاف العديد من منشوراته على الفيسبوك، ومن ثم شراء كتابه الذي نُشر بعد وفاته "أنا قادم أيها الضوء". وجدته كتابًا ممتعًا وحزينًا للغاية، فهو أشبه برسالة وداع يكتبها شخص يعرف أنه على بعد أشهر، ولربما أيام من الموت بعد أن استنفذ كل فرصه في العلاج. يحدثنا عن معركته في مواجهة المرض، وتجربته في العمل الصحفي، وعائلته وشريكته التي أحبها وأصبحت جزءًا منه كما يصفها، ويسرد لنا تفاصيل مشوار حياتهما معًا في مصر وفي بريطانيا حيث توفي. تشعر وأنت تقرأ الكتاب كأنك جالس في حضرة صديق، يحدثك بكل عفوية وصدق عن تفاصيل الألم الجسدي ومخاوفه وتفهمه لتعب المقربين منه، ولا يسعك حين تنتهي منه إلا أن تترحم على هذه الروح الجميلة التي تركت عالمنا مبكرًا. كلنا نسأل في وقتٍ من الأوقات "لماذا نكتب"، وقد أجاب محمد أبو الغيط عن هذا السؤال في كتابه قائلًا إن الكتابة بالنسبة له أشبه بـ"صيحة" تُخبر الناس بأن "محمد أبو الغيط مرّ من هنا".