أنا والذكاء الاصطناعي: من يحتفظ بوظيفة المترجم؟
أعترف بأنني، حين حصلت هذه الطفرة في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي وخصوصًا مع ظهور Chatgpt، كنت قد بدأت أشعر بدرجة من القلق حول مستقبلي، إذ كانت وظيفة المترجم من بين الوظائف التي سيقوم بها الروبوت عوضًا عن البشر، وأنا من الصنف الأخير.
كنا نستطيع أن نفهم من كل تلك المقالات أن هناك وظائف كثيرة ستُصبح فائضة عن الحاجة، تمامًا كوظيفة الشخص الذي يضغط على زر المصعد نيابةً عن أشخاص أصحاء لا ينقصهم أي شيء ليقوموا بذلك بأنفسهم، مع كل الاحترام للأشخاص الذين يضطرون لمثل هذه الوظائف أساسًا. في زمنٍ ليس ببعيد، ستكون وظيفة المترجم أشبه بهذه الوظائف، فهذا ما تنبأ به كثيرون مع بدء انتشار هذه التطبيقات.
الحقيقة أنني شعرت بشيء من الطمأنينة فيما بعد، حين أدركت بأن هذه التطبيقات، وإن ترجمت إلى اللغة العربية، فهي ليست بالبراعة التي تؤهلها لتحل محل المترجم الإنسان. ويعود السبب في ذلك إلى أن هذه التطبيقات تستمد قوتها من قوة المحتوى باللغة المقصودة ومقدار التدريب الذي حصل عليه في هذه اللغة، ومن هذه الناحية، فما يزال الذكاء الاصطناعي في اللغة العربية أضعف منه في غيرها. هكذا فهمت بأن هذه الآلة قد منحتني مهلة لأمارس عملي إلى أن تطوّر قدراتها، ما يعني أن عليّ استغلال هذه الفرصة لجني الدخل من مصدرٍ لا أحبذه بالضرورة، ولكنه يظل مجالًا أساسيًا ومطلوبًا أكثر من غيره من المجالات التي أتمتع بمهارات العمل فيها.
الحق يُقال، لطالما تمنيت أن أجد مصدر دخلٍ آخر، فأنا أحب اللغات وأستمتع بتعلمها وبإعادة صياغة العبارة في كثيرٍ من الأحيان، ولكنني واثقة من أن بعض مهام الترجمة تُدمّر أي خلايا مسؤولة عن الإبداع. هذه مهام لا روح فيها ولا حياة، إذ غالبًا ما تكون على هيئة نصوص تقنية لا مجال فيها للإبداع على الإطلاق، فليس أمامي سوى ممارسة عمل الآلة وإنهاء المطلوب لكي أرسل الفاتورة وينقضي الأمر. بعبارة أخرى، لم أكُن أمانع بأن يأخذ الذكاء الاصطناعي هذه الوظيفة مني، شريطة أن يمنحني مقابلها فرصة حقيقية للكتابة المستمرة، فرصة تؤمن لي مستوى معقولًا من الدخل من الكتابة وحدها.
بيد أنه، وحتى ذلك الحين، ارتأيت أن أجرّب هذه التطبيقات، علّها تُسهّل هذه الوظيفة عليّ، فتأخذ منها ما يُزعجني وتترك ما يُعجبني. كان عليّ ان أواجه الصوت الداخلي الذي يقول "ولكنهم يدفعون لكِ مقابل الترجمة، فكيف تطلبين من مايكروسوفت وورد أن يترجمها؟". طمأنت هذا الصوت، وذكرته بأنني لا أرسل المادة المترجمة كما هي، بل أضطر إلى إعادة كتابة جزء كبير منها، فلتكُن مهمة هذا الذكي كتابة مسودة أولى أستطيع تعديلها كيفما شئت. ألم تكن هذه طريقتي في الكتابة والترجمة منذ الأزل؟ ألم أكُن أبدأ بكتابة مسودة تليق بأكياس القمامة أولًا ومن ثم أعيد قراءتها بعين فاحصة وأجري التعديلات اللازمة لتُصبح قابلة للنشر؟ ما المشكلة، إذن، في أن يأخذ عني المهمة الأولى ويترك لي المهمة الثانية؟
الحق يجب أن يُقال مرة أخرى، فالترجمة التي يُنتجها مايكروسوفت وورد مستعينًا بالذكاء الاصطناعي لم تكُن بمستوى "كيس القمامة" هذا الذي ذكرته، بل إنها ترجمة جيدة في معظم الأحوال، ولكنها أبدًا لن تحل محل المترجم الإنسان. يستطيع البرنامج أن يقدم ترجمة جيدة، بيد أنه لا يمكن الاعتماد عليها دون وجود محرر بكل الأحوال، فهو لا يُميّز السياق ويُترجم بالقطعة دون النظر إلى النص ككل أيضًا، ما قد يؤثر على المعنى في كثيرٍ من الأحيان.
ها أنا أستعين به حيت أتعثّر في الترجمة، فالوصول إليه أسهل من فتح القاموس في كثير من الأحيان. كما أصبحت أستمتع بمنافسته، فتجدني أترجم عبارة ما، ومن ثم أضعها له لأتصيّد له الأخطاء وأربّت على كتفي مؤكدةً لنفسي بأنه لن يستبدلنا في الوقت القريب، على الأقل.
خلاصة الأمر أنني سعيدة بوجوده، وأتمنى، حين أترك له الساحة بالكامل، أن تكون الكتابة مجدية اقتصاديًا، تمامًا مثل الترجمة التي يدفع فيها العميل لقاء كل الكلمات بالتساوي حتى وإن كُنت تترجم أيام الأسبوع!