الأربعاء ١١ ديسمبر ٢٠٢٤
طائرة رقم ٢٦٥ (الرياض - القاهرة)
اليوم يوم مختلف، فأنا أكتب هذا الكلام أثناء رحلتي في الطائرة القادمة من الرياض للقاهرة. أشعر بهمّ ثقيل، لا أعرف كيف أقضي ثلاث ساعات وأنا لا أرغب في النوم، والطائرة غير مريحة إطلاقًا. ليس معي سوى الكيندل الخاص بي ولوحة مفاتيح على اللاب توب تكتب بالإنجليزية فقط، فأحاول أن أعتمد على ذاكرتي لتذكر أماكن الحروف العربية بها. سأكتب لكي أتمكن من الوقت قبل أن يتمكن الملل مني، وسأحكي لكم ما حدث خلال النصف الساعة الماضية من هذه الرحلة والساعة التي سبقتها في المطار.
(تم تنقيح هذا المقال، فالنسخة الأولى كانت مليئة بالأخطاء الإملائية الكارثية).
قبل دخولي الطائرة، كنت قد أنهيت مكالمة مع صديقتي السورية آلاء، التي هاجرت إلى كندا قبل ثلاث أعوام. راسلتها هذا الأسبوع لأسألها عن شعورها حيال ما يحدث في سوريا، فجاءني الرد التالي: سقط نظام الأسد للأبد .. بظن اليوم كل السوريين مبسوطين .. الحمدلله عشنا لنشوف هاليوم. باركت لها، ولم تسنح لنا الفرصة للحديث إلا قبل ساعة ونصف من الآن، هاتفتها على فيس تايم وبعد تبادل السلام، انتقلنا فجأة لنتحدث عمّا حدث خلال الأيام الماضية، فتحدثنا عن الثورة، عن الرحلة، عمّن رحلوا، وتحدثنا قليلًا عن القادم، فما يشغلنا بالفعل هو ما حدث للتو.
ذكرتها بأن الوقت قد حان لتشعر بلحظة نصر وقلت إنه من غير المهم على الإطلاق أن تفكّر في القادم، سنعيش كل لحظة بلحظتها، كانت عيونها وعيوني مليئة بالدموع ونحن نتذكر كل من رحلوا عنا ولم يحظوا بفرصة لمعايشة تلك اللحظة التي أصبحت فيها سوريا للسوريين. ودّعنا بعضنا البعض لكي أتمكن من ركوب الطائرة بعد أن اتفقنا على إجراء مكالمة أخرى لاستكمال الحديث الدائم عن الغربة والمستقبل والحاضر والحب والشراكة والعمل وكل ما نتحدث عنه معًا كعادتنا.
دخلت الطائرة وأنا أشعر بمشاعر كثيرة، ولم يعكّر صفو تلك اللحظة إلا تلك المكالمة من خدمة عملاء شركة شحن يتأكدون فيها للمرة المليون من أنني لست في القاهرة لاستلام الشحنة التي طلبت تأجيلها، ويحذرني الموظفون فيها من الإلغاء. غالبًا ما يفصلني واقع مستوى الخدمات في مصر عن الواقع الذي يعيشه العالم، فيبدو لي أنني يجب أن أتنازل عن حقي في احترام وقتي أو خصوصيتي إذا ما طلبت خدمة من بعض مقدمي الخدمات مهما كان سعرها مرتفعًا.
جلست على آخر كرسي في الطائرة، لا أعلم لماذا يختارون لي دائمًا أغرب الكراسي. ارتفعت معنوياتي عندما رأيت سيدة في أوائل الخمسينيات، تبدو مألوفة ولطيفة وجاءت لتجلس بجانبي. تشبه تلك السيدة هبة رؤوف عزت، وقد حاولت بدء حديث معها، ولكنني شعرت بتحفظها فاحترمت مساحتها وإن كان لدي، حتى تلك اللحظة، شعور داخلي بأنها تشاركني بعض القيم وربما يدور بيننا حديث لطيف لكسر حاجز الملل في الساعات الثلاث القادمة.
في اللحظة التي أطفئ فيها نور الطائرة استعدت مكالمتي مع آلاء ونزلت دموعي تلقائيًا في هدوءٍ شديد، وكأنها دموعي تحتاج إلى الانهمار وتعرف جيدًا أن هذا هو ما أحتاجه بالضبط. بكيت كثيرًا، وبالأخص على قصة مازن الحمادة، كما شغلتني كثيرًا قصة الصحفية رزان التي لم يُعرف مصيرها حتى اللحظة. مسحت دموعي أكثر من مرة وأكاد أجزم أنني شعرت بتلك السيدة، التي جلست بجانبي، تبكي هي الأخرى.
لم أستطع النوم، ففتحت الكيندل الخاص بي. أحاول جاهدة أن أعود للقراءة، فقد وصل بي الحال لقراءة رواية اسمها "فلتغفري" في طريقي للرياض، وقررت أن أكون أكثر حكمة هذه المرة، ففتحت رواية للمنسي قنديل شدّني عنوانها وهو "٣ قصص عن الغضب"
هل كان يعلم المنسي قنديل أنني كنت أشعر بالغضب للتو وأن حديثه عن الثورات وأبنائها هو بالفعل ما أريد أن أقرأه الآن؟
كافيه ريش - وسط البلد
في وقتٍ ما في تسعينيات القرن الماضي
يحكي المنسي قنديل حكاية فلفل، الذي يرى كل الناس ولا يراه أحد، وهو العامل في مقهى ريش في وسط البلد، حيث يكتب الأستاذ نجيب محفوظ، وحيث يطارد فلفل حلم واحد "أن يكتب مثل الأستاذ" أو على الأقل "أن يكتب".
يسأل الأستاذ لماذا تكتب؟ فلا يستطيع الإجابة.
يسأل عن ماذا يكتب؟ فيرد بمنتهى السلاسة "عن كل شيء تراه وعن كل شيء تحسّه فيما لا تراه"
نرى الأستاذ في خلفية القصة كرمزية للأمل أو العهد، لا أعلم، ولكن البطل الحقيقي بالنسبة لي هو "فلفل" الذي يحاول الكتابة مرات كثيرة ثم يقوده القدر لملاحظة أشياء لا يلاحظها غيره، مثل ماسح الأحذية الذي يقرأ مستقبل الزبائن من أحذيتهم حتى إنه قال للأستاذ نفسه "سيتحقق حلمك، ستعود الثورة، في ميادين قريبة من هنا".
يكتب فلفل أخيرًا عن ذلك الفتى الذي يقابله في المقهى ليسرد له مستقبل الثورة، ليعلم بعدها أنه سيكون شهيدًا من شهداء يناير. إنها حكاية من المستقبل يعرفها فلفل في الماضي، يكتب فلفل عنه ويضع قصته أمام الأستاذ الذي لم يقاوم دموعه، ولا أقاوم أنا دموعي مع فلفل على ذلك الشاب وأتذكر أنا كل شاب مثله نادى يومًا بالحرية.
شاركني فلفل شعوري بالفضول تجاه العالم وحبي للكتابة وسؤالي المستمر: كيف يكون الإنسان شجاعًا إلى هذا الحد؟ وهل الشجاعة رد فعل للغضب؟