عن إعادة تحويل الأرقام إلى أشخاص
الصورة للصحفي: معتز عزايزة
كتب كثيرون من شهدائنا في وصاياهم بأنهم لا يريدون أن يكونوا "مجرد رقم" في نشرات الأخبار العاجلة، أي مجرد جثة أخرى تُضاف إلى الحصيلة التي تعمل وزارة الصحة على تحديثها باستمرار. هذا أبسط حق من حقوقهم، فهم لا يريدون أن تُختصر حياتهم كلها بلحظة استشهادهم دون المرور على حياة كاملة، كانت مليئة بأحلام صغيرة وكبيرة أجهز عليها الاحتلال بكل سهولة.
هذه وصية ليست مستغربة، خصوصًا وأننا شهدنا على مدار العقود الماضية كيف تحولوا إلى رقم، وخبر مقتضب على شاكلة "استشهاد فتى برصاص الاحتلال" لا يحتل حيزًا يُذكر في حين تُفرد مساحة أوسع بكثير لخبر افتتاح مشروع اللاشيء والتأكيد على ضرورة توطيد العلاقات الثنائية مع أي بلد في الكوكب.
هكذا سجّل بعضهم قصته بنفسه، بينما روى آخرون قصة الشهداء نيابةً عنهم، وامتلأ العالم الافتراضي بها، ولكن لا يسعني إلا أن أتساءل إن كانت هذه القصص قد نجحت في إحداث التضامن المطلوب، الذي يشل الحياة اليومية ويدفعنا إلى الضغط بكل ما أوتينا من قوة لوقف المذبحة.
بادئ ذي بدء، أنا لا أجادل في أهمية رواية هذه القصص ولا أجادل في أهمية تنفيذ وصية الناس الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لحرية لن يشهدوها هم، ودفعوا ثمن صمتنا وتقاعسنا جميعًا. ما أتساءل عنه هو ما إذا كنا، حتى مع ذكر كل تلك التفاصيل عن الشهداء، قد آلفنا وجوههم واعتدنا المشهد مرة أخرى. بعبارة أخرى، لربما يكونوا قد تحولوا بالفعل من رقم إلى بشر، إلى وجه نعرفه ونعرف أحلامه وهواياته ولربما نعرف اللقب الذي عُرف به بين محبيه، ولكن ذلك، على أهميته، لم يحقق التحرك المطلوب.
سمعنا قصة يوسف، الذي خرجت أمه لتبحث له عن طعام فعادت ولم تجده. ورأينا الشباب الذين حصلوا على منح تنافسية للغاية، واجتهدوا ودرسوا ووقعوا في الحب ومن ثم عادوا ليلقوا حتفهم في غزة، ورأينا النساء اللواتي ولدن في ظروف لا يتصورها عقل، ورأينا الوجه العزيز، وجه وائل الدحدوح وزوجته الجميلة الشهيدة آمنة، التي ظهرت في فيديو قديم لهما، وهي تمازحه قائلة "مين قلك بدي أطلع على الجزيرة؟" وغيرهم.
أرأيت؟ اضطررت لأقول غيرهم رغمًا عني، فكيف سأجد متسعًا لذكر كل القصص حتى وإن أحببت ذلك؟ يحضرني هنا ما ذكره أحدهم لتوضيح حجم المأساة حين قال بأنك لو أردت تقديم واجب العزاء في كل الأطفال الشهداء وذهبت لعزاء طفل واحد كل يوم لاحتجت سنوات لإنهاء المهمة. وعلى المنوال ذاته، فلو أردت سرد قصة كل شهيد بتفاصيلها التي تعطي حياته حقها من الاحتفاء لاحتجت عقدًا كاملًا من الزمن.
كنت أناقش هذه الفكرة مع صديقتي آية، وقد نبهتني إلى نقطة مهمة، فسرد هذه القصص على شكل محتوى سريع قابل للمشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي هو سلاح ذو حدين بالفعل. في الوقت الذي يُعد ذلك ضروريًا لإيقاظ ضمير العالم وتنفيذ وصية الشهداء، فإنه يساهم بشكلٍ ما في اعتياد المشهد حين تُصبح كل تلك القصص جزءاً من "المحتوى" بمعاييره المعروفة التي تساعد في انتشاره وانحساره بالسرعة ذاتها. في المقابل، تخبرني آية بأن أثر فيلم "دموع من غزة"، والذي يسرد قصة واحدة كاملة بكل تفاصيلها، قد يكون أعمق لدى المتلقي لأنه أبطأ ويرسم صورة كاملة بدلًا من الاقتباسات السريعة، مع فارق السياق بالطبع.
لربما يكون هذا واحدًا من تعريفات ما يحدث في غزة: مذبحة يحتاج المرء لعقد من الزمان لتقديم واجب العزاء في كل شهيد فيها وعقود أخرى من الزمان لرواية قصصهم كما يجب لكيلا يُنسوا.
أتفق مع آية إلى حدٍ ما في أن قولبة القصص بهذا الشكل يجعلها مؤثرة، وقابلة للتداول، ولكنها قابلة للتجاوز كذلك. بيد أنني لم أعثر على إجابة، وما زلت أتساءل عن الطريقة المثلى لرواية كل تلك القصص حتى تظل تدفعنا إلى فعل أي شيء، مهما كان بسيطًا، لوقف المجزرة ودعم الناس. كيف نضمن ألا تتحول إلى قصص اعتدنا على تكرارها رغم قساوتها؟