هل صدف وشعرتم من قبل أنكم منقسمون ما بين عالمين مختلفين؟ عالم تحبونه وعالم قادرون على التعامل معه؟
سافرت إلى كينيا قبل شهرٍ واحد لحضور ورشة تدريب المدربين، وكنوع من التعارف بين المتدربين، تم توزيع مجموعة من البطاقات التي تحتوي على صور مختلفة، وطُلب منا اختيار البطاقة التي تُعبّر عن شخصيتنا. فور رؤيتي لبطاقة ما، شعرت بأنها تمثلنى تمامًا، فأخذتها و تأملتها طويلًا.
احتوت البطاقة على صورة شجرة صلبة وقوية وضخمة تخرج من باطن الأرض لتثبت وجودها وسط برجين عاليين عملاقين، وفي الخلفية ضوء ساطع يأتي من السماء. وعلى غرابة الصورة ووجود عنصر قوي من الطبيعة وسط برجين كأبراج دبي الشاهقة، إلا أن الشجرة قد بدت ناضجة وقوية. للوهلة الأولى، تشعر وكأنها في غير مكانها الطبيعي، ولكن بعد التأمل فيها بتركيز يمكنك أن ترى ما هو أبعد من ذلك، وهو أنها أثبتت أن الطبيعي هو ما تعتبره أنت طبيعيًا.
تعبر تلك الصورة عني بشدة لشغفي بأشياء متعددة وانتمائي لعالمين مختلفين نادراً ما يتلاقا، وهما عالم الإبداع والثقافة وبناء المجتمعات وعالم آخر رأسمالي أعمل به كموظفة بدوام كامل أو جزئي وأحياناً كمستشارة تطوير أعمال، وأتقاضى فيه أجرًا لا بأس به يسدد فواتيري ويشعرني بالاطمئنان في حال تبدل الأحوال. لطالما أجدت التعامل معه، فهمت طريقي به إلى حدٍ ما، واخترت أسلوب الحياة به ولكنه لم يشبعني يومًا. وحدها عودتي لواقع آخر وعالم آخر أندمج فيه مع أصحاب الأفكار والأحلام في التغيير والفن والتأثير والكتابة هي التي تشبعني فكريًا وتنقذني من شعور انعدام الرضا عن نفسي. أجد روحي في هذا العالم تتألق وأجد مستقبلي العملي وطموحي المالي آمنين في عالم البيزنس.
كثيرًا ما تعرضت لمحاولات عملية وإرشادية بهدف تثبيتي على طريق وخطة واحدة وشغف واحد كي أصل، ولكن السؤال هو: أصل لماذا وإلى أين؟ حتى على طريقة باولو كويلو الساذجة، لربما يكون الكنز تحت قدميك أو ما تبحث عنه يبحث عنك وكل هذه الكليشيهات القديمة، وما أعلمه علم اليقين أنه لا توجد قمة للبحث عنها. فشلت مرارًا وتكرارًا بمحاولات تفسير هذا التداخل وفكرة شغفي بأشياء متعددة إلى أن قررت ألا أهتم وتعاملت مع الأمر على أنه أمر شائع ولا يجب شرحه من الأساس.
غريب في بلاد غريبة - كايروكي-
عندما كنت في كينيا، التقيت بميسرة الورشة اليونانية ستيلا، وقد تأثرت بشدة بارتياحها مع واقعها واندماجها في أفكارها وخروجها عن المتعارف عليه في إطار الورشة. كما شعرت بتقدير كبير لموقفها عندما تم ذكر أحداث غزة، حيث قررت تشجيع المشاركين على ترك المقرر الرئيسي جانبًا والتحدث عن هذا الأمر إن كان هذا ما نريده، لأنه حسب قولها الذي أترجمه هنا للعربية "لا يجب أن يُفصل هذا التدريب عمّا يحدث في الواقع، نحن نندمج مع واقعنا السياسي وندرك تمامًا أهمية ما يدور حولنا". فاجأتني لأنها قالت ذلك في ورشة مموّلة من مؤسسة ألمانية وقرّرت فعل الصواب بغض النظر عن التبعات والسياسات، وظلت تكرر الجملة السياسية المشهورة "الشأن الشخصي هو سياسي بالضرورة" .
بعد انتهاء الجلسة، اقتربت منها وسألتها عن اندماجها في عالمها وكأنها ليست غريبة، وسألتها كيف تخلق هذا النوع الخاص من التناسق الذي يشبه ملامحها اليونانية الجميلة السيمترية، وكأنها تبدو في مكانها الصحيح تمامًا، وبالطبع أشرت إلى قصة البطاقة التي اخترتها وأنني أشعر كما لو كنت شجرة ما بين برجين. بعد مناقشة قد تكون الأمتع والأصدق في كينيا، علمت أنها هي، أيضًا، مرت بنفس تجربة البيزنس ثم اندمجت الآن في عالم التدريب والميديا. لا أعلم إن كانت لدي نية لاختيار عالم من هذين، ولكنني شعرت بارتياح كبير عندما عرفت أنني لست الوحيدة التي تترنح ما بين عوالم مختلفة وتشعر برغبة في وجودها بينهما والاستمتاع بهما.
هذا شعور بالتضامن من أجل المدافعة عن الحق في الشغف بأشياء متعددة، حرية أن أكون ما أريد أن أكونه في الوسط الذي أختاره، أرتدي قبعة الثقافة تارة والإبداع تارة أخرى، أعلق بصوتي أحيانًا وأكتب أحيانًا أخرى، أتفاوض لأزيد ربح الشركة التى أعمل بها في بعض الأحيان وأتواصل بشكلٍ عملي في أحيان أخرى. أحاول أن أجد نفسي وأن أكون مثل ستيلا، أي أن أبدو كما لو كنت في مكاني الصحيح.
ربما هي رحلة بحث عن التوازن، عن التواجد والحضور القوي، ربما سأكون أكثر وضوحًا في أعوامي القادمة وربما لا، لكن حتى يكون ما سيكون أنا راضية بكوني شجرة ما بين برجين.
ما شاء الله أداء كتابي متميز