الصورة من معرض فن القاهرة ٢٠٢٤
أبحث منذ أسابيع عن بداية لسرد ما يدور في خاطري منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، ولكنني لم أجد ما أستطيع التعبير به عن مقدار الألم الذي شعر به ملايين البشر جراء ما دار في فلسطين.
كنت قد رجعت للتو من الأقصر، أشارك على منصة انستجرام بعض اللقطات واللحظات المميزة، وأتابع بعض المنصات التي نشرت عن عمليات المقاومة والميمز التي سخرت من واقع الجيش الإسرائيلي.
في ٦ و٧ أكتوبر، كان كل شيء يبدو عادياً حتى أنني لم أشعر بقلق كبير في البداية، فلربما توقعت، دون أن أقرأ، أنه مجرد حدث عابر إلى أن جاءت تلك التصريحات من طرف إسرائيل لتعلن بدء الحرب على غزة. هنا توقفت، وقرأت ما حدث، وعلمت علم اليقين أن رد الفعل سيكون تطهيراً عرقياً لأهل غزة.
صدمة نظرة الغرب - أنت غير موجود - مجرد رقم
شعرت بإحباط شديد في الأيام الأولى، إحباط شاركني فيه كل من أعرفه تقريباً في ظل تصريحات ٩٠٪ من كل من أتابعهم في الغرب من مشاهير وفنانين وكتاب، ممّن أعلنوا تعاطفهم وتضامنهم مع اسرائيل وانحيازهم لها. بعد بدء الحرب بأيام، وصلتني ايميلات من مؤسسات عالمية كنت قد تطوعت بها واشتركت في نشرتها البريدية لإعلان وقوفهم إلى جانب اسرائيل. هكذا شهدنا وقاحة وجهل متعمد في فرض رأيهم، وحملات متتالية وصل بعضها حد الفصل المتعمد لمن يعلن عن رأي مخالف، حتى أنني رأيت منصة محترفة كلينكدإن تتحول، للمرة الأولى، لساحة نقاش عن الأمر. كما خاطر كثيرون بحياتهم المهنية من أجل الحقيقة وتعرضوا لمضايقات لا حدود لها، بما فيها التضييق من خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي.
هل حقاً صدمتني النظرة الغربية للعرب عموماً والمسلمين على وجه الخصوص؟ هل تخيلت أن هناك تطوراً طرأ على النظرة العامة لنا وأن هناك تطوراً فكرياً ونوعياً بعد المجهود الذى بذلته الجاليات العربية والثقافية لمحو فكرة الإسلاموفوبيا؟ هل حقاً تخيلت أن الموضوع تحكمه في الأصل الأبعاد الإنسانية لا الاقتصاد والأرقام؟
تذكرت تلك الحملة التي تعرض لها كانيه ويست عندما نشر رأيه حول تحكم اليهود في الإعلام الغربي بنسبة كاملة مع ذكر أسماء المؤسسات الإعلامية المحتكرة والمسيطر عليها من قبل الأيديولوجية التي وصمت كل من يقول رأياً معادياً لإسرائيل بأنه معاد للسامية. كما استخدمت مأساة الهولوكوست ككارت مؤسف للعب على عقدة الذنب عند الغرب تجاه اليهود، والمفارقة أن المأساة يتحمل نتيجتها العرب وهم في الأصل ساميون.
شرق أوسطهم وأحرار العالم
أتذكر إلى أي حد كنت أدعم هؤلاء المشاهير بنشر صورهم وكتبهم ومشاهدة أعمالهم وزيادتهم سيطرة على سيطرتهم. كنت أشاهد صور إخوتنا في غزة يبادون أمام أعيننا، بينما يتحدث العالم في الغرب عن شرق أوسط جديد. ردّدتها كونداليزا رايس وجورج بوش أثناء حرب العراق وأثناء كل عملية وحشية أطلقتها اسرائيل على فلسطين، وكنا دوماً نتخيل أن الشعب مختلف عن الحكومات. لا أريد ظلم جميع الشعوب، فقد قال بعض "أحرار العالم" كلمتهم بالفعل وقد تحركوا ونظموا مسيرات تضامن غيرت المشهد العام بالنسبة لنا في الأسابيع التالية من الحرب.
كنت أتابع الأرقام على هاشتاجات تيكتوك وانستجرام لأرى من المتصدر وكيف يتفاعل العالم مع القضية وكيف يتغير المشهد لصالحنا يومياً. اهتممت بشدة بالرأي العام، الذي بدا وكأنه يتحرك لصالحنا من جديد، فشعرت بأننا في حرب قد ننجح فيها في تغيير نظرة العالم للكيان الصهيوني، وحرق كارت الهولوكوست، وفضح عقدة الذنب عند الألمان بالإضافة لنشر الوعي لدى جيل بأكمله لم يسمع يوماً بها. انتهى هذا الصراع الرقمي بدفاع فريق عمل تيك توك عن نشر المحتوى المتضامن مع القضية، لأنه يرى أن جيل زد مهتماً بالجانب الفلسطيني بشكلٍ أكبر.
كنت أدوّن يومياً وخصوصاً على انستجرام، وأعيد نشر ما ينقله لنا المراسلون في غزة حتى نساهم في تحريك الخواريزميات لصالحنا والتضامن بأقل القليل معهم إلى جانب الدعاء، فأنا حُرمت، بخلاف أحرار العالم، من التضامن الفعلي والخروج حتى بمسيرة تضامن واحدة في الدولة الأقرب على حدودهم.
صور عالقة في الأذهان للأبد
ربما تتذكرون معي، وأنتم تقرأون مقالتي، بعض الصور التي طاردتنا في منامنا، حيث كانت صور مثل "روح الروح" و"الولد أبو شعر كيرلي" الأكثر انتشاراً، ولكنني حقاً كدت أنفجر من الغيظ والحزن كل يوم على الأمهات اللواتي احتضن أطفالهن وبكين وهن منكسرات، وهؤلاء الرجال الذين قضوا أياماً طويلة لانتشال أهلهم من تحت التراب. كنت أعلم أن من استشهد في مكان أفضل بإذن الله، ولكن ما يقض مضجعي بالفعل هو حال من عاشوا، فكيف سيتعايشون؟
نعم ارتاح ضميرنا لبعض الوقت حين اعتقدنا بأن شعب غزة مختلف عن كل شعوب العالم، فهم أقوى، هم أكثر همة، هم أقرب للتقوى والصلاح، هم الأحرار ونحن المحتلون، ولكنني أدرك بأنها نظرية تخديرية، فشعب غزة المليء بالعزة أيضاً يريد الخلاص ويستحق الحياة، وقد فعل كل ما بوسعه لنشر الحقيقة لنا حتى يرى العالم. انتهكت خصوصيتهم ورأيناهم يبكون ويطلبون المساعدات وتركوا منازلهم ونزحوا من مدينة لمدينة في نكبة ثانية لم يتوقع جيلنا أن يشهدها. وعلى الرغم من ذلك، يقف العالم، نقف نحن، أقف أنا مشاهدة لكل ما يحدث بمنتهى العجز.
رفعت العرير وسامر ابو دقة
لن أتكلم عن هؤلاء الأبطال الذين نقلوا المشهد يومياً، إذ أعلم أن أي انسان حر قد يشاركني نفس الشعور بالخوف عليهم والفخر بهم مثل معتز وبيسان وصالح وبلستيا وغيرهم، ولكن هناك شخصين بالتحديد عرفت عملهم ولم أعرف أسماءهم إلا بعد استشهادهم وهم رفعت العرير الذي أنشأ حملة "ليسوا مجرد أرقام" وسامر أبو دقة الذي صوّر للجزيرة مع وائل الدحدوح وجعلنا نشاهد جزءاً كبيراً من الحقيقة. بعد استشهاد رفعت، بحثت عنه ووجدت فيديو تيدكس قديم له يتحدث فيه عن الحكي. توقفت عنده وشاهدته كاملاً، فأنا كنت منظمة في نفس المنظمة التي لم تصدر صوتاً أو تدين اي تصرف حدث. أما الصورة الثانية، فهي الصورة الشهيرة لسامر، أقسم أنني لم أر شخصاً يتكلم من صورة مثل هذا الشخص، وكأنني أعرفه بشكل شخصي.
من أنت
إن لم تستطع التذكر من تكون؟
سمعت هذه الجملة على لسان مورجان فريمان في أحد أحدث أعماله وتوقفت عندها، من أنا حقاً؟ هل أستطيع التذكر من أكون؟
يتبع….