بين مدينتين: شخص واحد باسمين
قبل أن أغادر عمّان قبل سنتين ونصف، كنت قد وصلت إلى نتيجة مفادها أن المدينة لا تمنحك المساحة الكافية لتكون مجهول الهوية، لا لأنك بالضرورة شخص معروف، ولكن لأنك بالضرورة مرتبط باسم عائلة يسهل معه تصنيفك وربطك بشخص ما، بشيء ما في ذهن من تلتقي به، وإن كان هذا ليس له علاقة بأي حال من الأحوال بقرار السفر أساسًا.
أذكر توالي عدة أحداث قبل وصولي إلى هذه النتيجة. أنت لا تستطيع حتى أن تنهار وأنت تقود سيارتك الخاصة، لا تملك أن تبكي بحرارة لأي سبب كان دون التفكير في العواقب، فقد تصادف من تعرفه في الطريق، وهذا احتمال ليس ببعيد إطلاقًا، فينقل تساؤله لآخرين: شفتها بتبكي، خير شو صاير معها؟
وقد حدث أن كنت بحاجة لطباعة أوراق من المكتبة ذات مرة، مكتبة أدخلها للمرة الأولى، فاطلع صاحبها على اسمي من خلال البريد الإلكتروني، وسألني السؤال التقليدي: شو بتقربلك *سونيا؟ هل كنت بحاجة لسماع هذا السؤال مرة أخرى؟ قطعًا لا. وكم من مرة تساءلت ما الذي يعنيه أن تكون سونيا واحدة من أقاربي بالفعل؟ ما أثر هذه المعلومة الجديدة عليك أو على العملية البسيطة التي جئت من أجلها؟
***
ركبت الطائرة إلى حيث أُعرف باسمي الأول والثاني، الذي يعامل معاملة الاسم الأخير. عشت حياتي كاملة، حتى اليوم المذكور، في مدينة تعرفني باسم لينا شنّك، أحدّث أشخاصًا على الهاتف لتسجيل حجز أو الاستفسار عن أي خدمة، فيعتقدون أنني أقصد "شناق"، فأعاود التذكير بأنها تكتب شين نون كاف.
عشت حياتي كاملة في مكان يحب أن يصنفني على هذا الأساس لأسباب اجتماعية وفضولية وقد لا تكون الدوافع بهدف التمييز دائمًا، ولكنها عادة اكتسبناها ولم نعرف كيف نتركها بعد. لا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي كنت فيها حاضرة في سجل الحضور وأراد المدرس أن يتسلى بمعرفة أصول الحاضرين. يتوقف البعض عند الاسم، ويتساءل: شنّك أم شنّاق؟ أم أن اسم العائلة دلالة على أصل شركسي مثلًا؟
أما هنا، حيث يُعامل الاسم الثاني معاملة الاسم الأخير في بلادي، فأنا لينا فؤاد، وقد استغرق الأمر وقتًا ليس بالقصير لأدرك الفرق، فلينا فؤاد هنا مختلفة، هي لا أحد، ولا تربطها صلة قرابة بأحد ولا يهتم لأمرها أي شخص وهناك حتمًا الآلاف ممّن يحملون الاسم ذاته.
****
عدنا إلى أصل حكاية الأسماء. وقفت في دائرة حكومية لأستخرج وثيقة، وانتبهت لاسم الموظف، فلنقل أن اسمه أحمد عوض وهذا ليس اسمه الحقيقي بالطبع. لثوان معدودة، دار هذا الحوار في رأسي ولم ينطق بصوت عال:
أحمد عوض، ها، شو بتقربلك فرح عوض؟
فرح هي شخصية حقيقية كانت زميلتي وصديقتي في الدراسة. بما أنه ينتمي إلى الجيل الأكبر سنًا وعلى الأرجح يعرف والدها ولا يعرفها، سيسألني: مين فرح؟ مين أبوها؟
سأقول هنا بنبرة واثقة: بنت الدكتور هاشم. لاحظت، أثناء رسم هذا الحوار في ذهني، بأن الشخص الذي يعرفه الناس في العادة يجب أن يكون طبيبًا. لست أدري لماذا بالضبط ولكنها الحقيقة. سيقول "اه طبعًا الدكتور هاشم الله يرحمه، ولاد عم أبوي". أسهل إجابة هي أن تقول "ولاد عم أبوي" عندما لا تكون واثقًا من درجة القرابة، وقد مارست الحيلة ذاتها مرات عديدة.
لم أنطق. تأملت اسمه، وتساءلت إن كنت بالفعل قد تحولت إلى النموذج الأردني في التعرف على الآخرين، الذي كنت أمقته في كثير من الأحيان، حيث يجبرك على خوض هذه الحوارات حتى مع العابرين، الذين لن تربطك بهم علاقة "نسب ومصاهرة" في القريب العاجل بطبيعة الحال، ما يجعل كل هذه المعلومات غير ذات صلة. بعد انقضاء مدة الصمت القصيرة هذه، نطق هو فقال "شو بيقرب لك دكتور *سالم؟"
أيوا. خفت عليك يا أخي. خفت أن تكون هذه العادة قد انقرضت في مدة قصيرة كهذه، خفت أن أكون قد كبرت فعلًا في هالغربة وما عرفتني بلادي. قلت "ابن خال أبوي" في تحايل بسيط على الإجابة المعتادة "ابن عم أبوي"، ومضيت مبتسمة.