هل تروي القصص الحقيقية "الحقيقة" كاملة؟
أتم هذا الشهر عامي السابع والثلاثين. تمامًا كما فعلت في العام الفائت، أحببت أن أكتب سلسلة من الأفكار التي شغلت ذهني هذا العام وكانت جزءًا من سجل "التجارب والأخطاء".
***
في هذا العام، صدر لي كتاب بعنوان "مئة قيد وقيد: قصص عن دوَّامة الجريمة"، وهو كتابي الثاني بعد "قاع المدينة" الذي صدر في عام 2019. يسرد كلاهما قصصًا حقيقية بتصرف، وأنا سعيدة بالفعل بصدور الكتاب الثاني تحديدًا، كونه استغرق سنوات من العمل، المكثف تارة والمتقطع تارةً أخرى.
هذه التجربة علمتني الكثير، وجعلتني أسأل نفسي سؤالًا جوهريًا: إلى أي حد نكتب نحن الحقيقة حين نسرد القصص الحقيقية؟. كلا الكتابين اعتمدا على الواقع، على معايشة أشخاص يمرون بظروف مختلفة ومن ثم محاولة كتابة سيرهم الذاتية بعد هذه المعايشة. لا ينتميان إلى عالم الرواية بالمعنى المتعارف عليه، ولكنهما يرويان القصص بتصرف لغايات السرد والسلاسة، وقد لجأت في بعض الأحيان لإضافة تفاصيل متخيلة لحماية خصوصية الأفراد دون أن تؤثر هذه التفاصيل على جوهر القصة.
قرأت مؤخرًا كتاب "تلات ستات: سيرة من ليالي القاهرة"، وقد ألفه صحفيان اثنان أرادا الكتابة عن تجارب عاملات الجنس في القاهرة، بأسماء مستعارة بالطبع. وجدت في مقدمة الكتاب ما يكاد يطابق تساؤلاتي حين أردت تصنيف ما كتبته أنا، فهما أيضًا وقعا في حيرةٍ من أمرهما، فلا هما يكتبان خيالًا بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا هما يكتبان القصص الواقعية كما تُكتب للتقارير الصحفية.
وجدت في هذا الكتاب إجابة جيدة لأسئلتي، التي شغلتهما أيضًا كما يتضح من المقدمة، وأقتبس من كتابهما هذه الإجابة "اتفقنا أن تكون كتابتنا في سياق السيرة الذاتية الأدبية، أو السيرة الأدبية، تلتزم بالحقيقة كمعيار، لكن أيضًا تمد خطوط الأدب بسرد فيه بعض الخيال الملتزم بأمانة الحقائق". وأضاف المؤلفان أن الخيال كان ضروريًا في هذه الحالة لنقل "مشاعر وصلت لنا من خلال الحكي" أو لرسم السياق الواسع الذي كان من "المستحيل عزل الحكايات عنه". هذا بالضبط ما حدث معهم وما أزعم أنه حدث معي أنا أيضًا.
بيد أن ذلك لم يمنعني من الاستمرار في التفكير في مقدار الحقيقة التي يمكننا الإفصاح عنها حين نختار أن نكتب القصص الحقيقية. نحن مجبرون أخلاقيًا على احترام خصوصية الأفراد، ما يجعلنا نحذف تفاصيل كثيرة قد تدل على هويتهم ولكنها قد تكون مهمة في قصتهم بالتحديد، ومضطرون لحذف أشياء أخرى قد تحرجهم أو تؤذيهم. في بعض القصص، كل هذه التفاصيل لا تهمّ، ولكن في قصصٍ أخرى، قد تكون هذه التفاصيل مهمة جدًا لنقل صورة واقعية وحقيقية، فماذا يظل من الحقيقة لو حذفناها لأجل الالتزام بسرد "قصص حقيقية بالكامل"؟
بالطبع، لا ألوم لا الناس لو طلبوا ذلك من الصحفي، ولا الصحفي الذي يقرر فعل ذلك من تلقاء ذاته حتى لو لم يطلب منه، فأنا ذاتي، قررت الاستغناء عن الكثير من التفاصيل حتى مع موافقة الأشخاص المعنيين، وذلك خوفًا من تبعاتها عليهم في مجتمعاتٍ صغيرة يعرف الناس فيها بعضهم البعض، في أماكن قد تصل فيها التبعات حد النبذ أو تهديد الحياة، وهو ما لا أريده لأي شخص مهما كانت قصته تستحق أن تروى.
وعلى المنوال ذاته، لا ألوم الكاتب الذي يقرر الإفصاح عن تفاصيل كثيرة أجدها أنا مستحيلة السرد في حالتي، بل أعتقد أنهم يتمتعون بجرأة كبيرة لا أملك عُشرها. كثيرًا ما يُقال إن الكتابة بالأساس هي فعل "بوح"، ويصفها آخرون بأنها فعل "نميمة"، ومن هنا يرى البعض أن ذكر تفاصيل محرجة هو بحد ذاته جزء من عملية الكتابة.
على سبيل المثال، كتبت الصحفية والمذيعة سايما مير تجربة شخصية جدًا في كتاب يجمع تجارب نساء مسلمات من مختلف الجنسيات اسمه ”It’s not about Burqa“ (ليست مجرد برقع). في هذا النص، تخوض مير في تفاصيل نشأتها في عائلة باكستانية مهاجرة، وزواجها وطلاقها مرتين، وتذكر الكثير من التفاصيل الحميمة التي توّد أن يطلع عليها ابناها من الزواج الثالث يوماً ما ليعرفا أن الإسلام أعطى المرأة حق اختيار شريكها والانفصال عنه لمجرد أنها لا تحبه، على حد تعبيرها. ما لمسني بالفعل هو جرأتها في سرد تلك التفاصيل باسم حقيقي، ومن ثم ما قالته في نهاية قصتها عندما شبهت كتابة تلك القصة بالوقوف عارية وسط غرفة مليئة بالمرايا، ولكنها عملية "شافية" جعلتها تدرك وهي تكتب آخر السطور بأنها فخورة بمعركتها.
هذه جرأة جميلة، ولكنني لا أحتمل أن أبدو أنا بهذا الشكل، عارية وسط غرفة مليئة بالمرايا، ولا أحتمل أن تبدو الشخصيات التي أكتب عنها بهذا الشكل أيضًا. لهذا السبب، أتردّد كثيرًا حين أكتب قصصًا بأسماء حقيقية وأجدني ألجأ إلى الأسماء المستعارة وإخفاء الهويات قدر الإمكان. نعم، قد أشارك التفاصيل عن حياتي الشخصية هنا وهناك ولكنني أبدًا لن أنشر ما هو بهذا القدر من الحميمية ويمس أشخاصًا آخرين من عائلتي.
في وقتٍ ليس ببعيد، تعاملت مع امرأة كانت تنوي كتابة قصتها، التي تنطوي على ذكر تفاصيل تعرضها للاستغلال. دعونا نقول إنها كانت تنوي توعية السيدات من مجتمعها بمخاطر هذا الاستغلال، وهذا هدف مشروع ومطلوب ولأجله نروي الحكايات. بيد أنها كانت خائفة من التبعات، من معرفة أبناء مجتمعها المصغر وما قد يتبعه من نبذ أو حتى تداعيات قد تصل إلى تهديد حياتها بدلا من لوم المستغل في حالتها. دار بيننا حوار طويل، اقترحت أن تكتبها كقصة خيالية، فما يعنينا هنا هو ما حدث، لا من الذي شهد الأحداث، فاقترحت أن تكتبها وكأنها تكتب عن صديقة. طلبت منها أن تبتكر شخصية خيالية وتروي ما تشاء من التفاصيل، فلا أحد يستطيع تهديد حياة شخصية خيالية. فكرنا مطولًا، ثم تراجعت هي لأسباب أخرى أحترمها وأتفهمها.
من هذه النقطة، وربما من قبلها، أدركت أنني بدأت أميل إلى فكرة نسج قصة مبنية على الواقع ولكنها متخيلة في النهاية، على أمل أن تفسح لي المجال لرواية ما نريد دون أن نؤذي أحدًا. هكذا نقول ما نريد قوله بالفعل دون فلترة.
ومن هنا، بدأت في التفكير في كتابة سيناريوهات لأفلام، وما زلت أطرق كل الأبواب في هذا العالم الجديد، الذي لا أفهمه ولا أفهم لغته في كثير من الأحيان. مبتدئة في هذا العالم، مستمعة في أماكن تسحق "الأنا" لدي، فما يصلح لقصة صحفية لا يصلح لقصة فيلم وإن كنت أصر على أنها قصة جميلة وتستحق أن تُروى. بدأت تتشكل لدي قناعة جديدة، وهي أننا قد نلجأ إلى الخيال، أو نحتمي به، لنقول الحقيقة دون أن نحذف نصفها ونظل نسميها "حقيقة".
لا أخفي أن هذه القناعة جلبت معها أسئلة أخرى، فهل للقصة المتخيلة نفس وقع القصة الحقيقية؟ هل سيعتقد المشاهد أن هذه مبالغة في الوقت الذي لم نلجأ فيه إلى الخيال إلا لحماية أنفسنا والناس من تبعات الحقيقة الواقعية بالكامل والتي قد تكون أسوأ ألف مرة من قصة خيالية يُخيَّل للمشاهد أنها ضُخِّمت لغايات الدراما؟



للحقيقة رائحة مميزة. لذا، أظننا قادرين على تمييز مساحتها في أي قصة خيالية.🫨
وحدهم العائشون في أبراجا عاجية أو عوالم وردية يخطئون؛ يظنون أنها مبالغات درامية 😏