على رصيف الحافلة 711
تحت شمس الظهيرة الحارقة، أقف متململة من الحر الشديد وطول الانتظار على رصيف محطة الحافلات في قلب مدينة لارنكا القبرصية. أتابع أرقام الحافلات التي تمر ببطء وتباعد بين أوقاتها، وأترقب ظهور الحافلة التي أنتظرها.
بعد أن قضيت ما يقرب من الساعة على الرصيف، اقتربت مني امرأة تبدو في العقد الرابع من عمرها. ملامحها أوروبية، بشعر أشيب مربوط للخلف ونظرة وديعة، توقفت عند الرصيف وبدأت الحديث بسؤال بسيط: "أي حافلة تنتظرين؟" جاوبتها: أنتظر الحافلة 711.. وأنتِ أي حافلة تريدين؟"
قالت: أنا لا أنتظر حافلة بل أفضل المشي على القدمين. تساءلت في قرارة نفسي: إذًا لماذا توقفتِ عند رصيف الحافلة؟ لكن حرارة الشمس وملل الانتظار منعاني من التعليق. أما هي، فلم تتوقف عن الاسترسال في الحديث معي الذي بدا عاديًا في البداية، نوعًا من الفضول الهادئ الذي قد تبديه سيدة تجاه شابة تظهر ملامحها أنها غريبة.
راحت تتطرق إلى الحروب والأزمات، وتسترسل في الحديث عن حكمة الله في كل ما يحدث، وأن لا شيء يقع في هذا العالم دون تدبيره. كنت أكتفي بالإيماء برأسي، فأنا لا أخوض في نقاشات دينية لا مع الغرباء ولا حتى مع المعارف، فكيف وأنا أقف منذ ساعة وسط هذا الحر والانتظار الطويل؟
سألتني: هل انت متزوجة؟"
أجبت: لا.
قالت: علّ الله يرزقك بالرجل الصالح قريبًا.
قلت: أشكرك. (الإجابة التي اعتدت أن أنهي بها أي حديث مع أفراد العائلة حول الموضوع)
"هل تريدين أن تعرفي ماذا يقول الله عن العلاقة بين الرجل والمرأة؟" قالت بإنجليزيتها المتواضعة، قبل أن تدرك خطأ ما في المصطلحات فعادت لتصحّح، وتقول "أقصد الزوج والزوجة"، ثم أشارت إلى حقيبتها الصغيرة وأضافت: إذا أردت أن تعرفي، فأنا معي الإجابة هنا.
ظننت أنها ستخرج ورقة أو مطبوعة صغيرة بها بعض الأدعية والصلوات مثل تلك التي يوزعها البعض في عربات المترو في القاهرة. لم تنتظر إجابتي، فهي هنا لأداء مهمة محددة وهي عازمة على إتمامها سواء قبلت أنا أم لا. سرعان ما أخرجت هاتفها المحمول لتريني "ماذا يقول الله" في هذا الشأن، وسألتني: "أنت تستطيعين أن تقرأي بالإنجليزية، أليس كذلك؟" أومأت برأسي بالإيجاب. بدأت بالبحث قليلًا قبل أن تريني شاشة الهاتف التي تظهر آية من الكتاب المقدس، مكتوبة بعدة لغات متراصة فوق بعضها في صناديق تفصل كل لغة عن الأخرى، منها اليونانية ومنها الإنجليزية وبعض لغات أخرى لم أفهمها. اقتربت أكثر من الشاشة وبحثت عن الجزء المكتوب بالإنجليزية وبدأت أقرأ بعيني في نفس الوقت التي تقرأ هي الآية فيها بصوت مرتفع. كانت الآية مفادها أن الرجال عليهم أن يحبوا نساءهم كما يحبون أنفسهم، بينما على النساء أن تحترم أزواجها!
“Each husband is to love his own wife the same as himself, and the wife must see to it that she respects her husband.” (Ephesians 5.28)
سألتني بعدها: في رأيك، ما هو مفتاح نجاح العلاقات؟
لم أكن في حالة تسمح لي بالتفكير النقدي، فكانت الإجابة التلقائية التي نطق بها لساني: الاحترام. أشارت إليّ بإصبعها كأنها تنبهني إلى شيءٍ ما: "للرجل.. الاحترام يجب أن يكون للرجل، أما المرأة فيجب أن يكون لها الحب فقط.. هكذا قال الله"
لم أكن أتوقع أنني سأخوض نقاشًا دينيًا فلسفيًا حول ديناميات العلاقات والجندر في قلب مدينة ساحلية هادئة مثل لارنكا التي جئتها على أمل استعادة رفاهي النفسي. تركتها تكمل وأنا أراقب كيف تنسج خطابها بثقة تامة، فأنا في كل الأحوال ضيفة لأيام قليلة في هذه البلد. تابعت: "هذه هي الفطرة الطبيعية التي خلقنا عليها الله، فالتكوين الجسدي للنساء مختلف عن الرجال، وبالتالي يجب أن يكون هناك اختلاف في الأدوار بين النساء والرجال كذلك".
استطاعت المرأة في تلك اللحظة أن تجذب انتباهي، حيث بدأت تتكشّف أمامي طبقات هذا الفكر الذي ما زال يتغلغل في عقول الأغلبية حتى داخل مجتمعات توصف بأنها "تقدمية". بدا لي كأنني أقف وجهًا لوجه مع سردية عمرها قرون: الرجل القائد، صاحب العقل والمنطق الذي يستحق الاحترام والإجلال، بينما المرأة يجب أن تعامل مثل "الطفلة المدللة" التي لا تحتاج سوى حضن دافئ وكلمات حب.
ما قالته هذه السيدة لم يكن غريبًا تمامًا، بل هو امتداد لخطابات منتشرة في مجتمعاتنا العربية أيضًا، حيث نسمع كثيرًا هذا التقسيم الجاهز الذي تروج له الخطابات الإعلامية وكتب التنمية البشرية وكذلك جلسات الإرشاد الأسري التي راجت مؤخرًا، وحتى على المنابر الدينية. أنا لست هنا بصدد مهاجمة الإيمان أو النيل من معتقدات البعض، لكنني أرى ضرورة التمييز بين الإيمان كقيمة روحية شخصية، وبين الطريقة التي تستخدم بها بعض النصوص لتكريس أدوار جامدة، تُعيد إنتاج علاقات الهيمنة باسم "الطبيعة" أو "الفطرة". كما أطرح تساؤلات حول كيفية تفسير بعض النصوص لتكريس أدوار جندرية جامدة، ومن يملك سلطة تأويلها، ولماذا غالبًا ما تأتي هذه القراءات من منظور يعيد إنتاج علاقات الهيمنة والتابعية؟
هذا الخطاب لا يكتفي بتحديد أدوارنا، بل يحصر مشاعرنا، ويضع شروطًا ضيقة على النساء فيما يتعلق بكيف نحب، وماذا نحتاج، وما الذي يفترض أن يجعلنا نشعر بالأمان والاكتمال.
في هذه اللحظة، وصلت الحافلة التي انتظرها وانتهى الحديث مع تلك السيدة بابتسامة منها وشكر على الحديث المقتضب. ركبت الحافلة وأنا أفكر في المفارقة: نحن نظن أحيانًا أن التحرر من القوالب الجندرية يحدث فقط بتغيير القوانين أو بكسر التقاليد الصارمة، لكن الحقيقة أن المعركة الأكبر تحدث في المساحات اليومية الصغيرة، في محطات الحافلات، في المناقشات العفوية، في نظرة غريبة أو تعليق عابر على رصيف الحافلة 711.




