إنسان آلي
التقيت بصديقتي بعد أكثر من ثلاث سنوات قضتها في بلد عربي لغرض العمل، وتبادلنا الحديث حول ما حدث في حياتنا خلال الأعوام السابقة وكيف خذلتنا الظروف وأنصفنا الله مراراً وتكراراً.
في العادة، تدور حواراتي التي أخوضها مع صديقاتي اللواتي كن حاضرات في معظم سنوات عمري حول سؤال أساسي نسأله لبعضنا في كل مرة: هل تغيرنا؟ أكان التغيير للأفضل أم للأسوأ. كشف لي لقائي مع صديقتي العزيزة عن شيء أفتقده منذ سنوات كثيرة، وهو إظهار ذلك القدر من العطاء والحنان خلال الاستماع والحديث عن تجاربنا. أعتبر نفسي محظوظة، فأنا محاطة بصديقات حكيمات نتشارك أحلام عدة وخيبات أمل أخرى.
ذكرني الحوار مع صديقتي بتدخل الله في كل مرحلة وحكمته في ترتيب الأمور، ونصحتني بأن أتذكر وأفهم وأؤمن بأن الله معنا، حاضراً ولن يتركنا أبداً. شعرت بمعنى كلماتها لأنه حقاً لم يخذلني طيلة عمري، بل أقف أحياناً متعجبةً أمام ترتيبه للأمور، فحقاً "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها". لم يكلفني الله أبداً فوق طاقتي وكان ينتشلني دائماً قبل أن أفقد جزءاً كبيراً مني، بل ويثبتني حتى وإن لم أكن على قدر كبير من الثقة في خطواتي.
ذكرتني صديقتي بجزء حالم مني كاد أن يضيع وسط سيطرة الجانب العملي. في مرحلة معينة من حياتي، كنت أعتبر نفسي إحدى شخصيات فيلم soul حيث سيطر هوسي بالتقدم العملي على كل كياني، فأصبح هدفي يتلخص في التركيز لأصل لما أريد. مهما تعلمت أنه لا يوجد ما يسمى بـ"الوصول إلى الهدف"، لأن طبيعة الحياة تقتضي السعي المستمر، ظللت أرهق نفسي في عالم ينهك روحي يومياً ويطالبني بأن أكون شخصاً بلا روح أو شخصاً قادراً على المناورة يومياً حتى أحافظ على مكانتي. لطالما أردت أن أخلع رداء العملية أو اللاعملية وأستبدله بطريق وسطي لطيف.
خلال تجربتي العملية، تأثرت كثيراً بتجارب قادة في المجال العملي كانوا قد آثروا القيادة الحكيمة المبنية على التعاطف وسياسة البناء والتحفيز وتعاملوا مع المحيطين بهم بقدر عالٍ من الإنسانية. كنت قد قررت أن أكون مثلهم، أقود بتعاطف، وكلما زادت معرفتي، كلما ذكرت نفسي بأن أكون أكثر حضوراً وتعاطفاً ورحمةً. بالطبع، لم يكن تطبيق ذلك سهلاً على الإطلاق، فمع كل محاولاتي لممارسة كل ما أعرفه وأؤمن به عن ظهر قلب، كنت أجد مقاومة في تقبل قيادة قائمة على التعاطف في كافة مراحل حياتي، أعترف بأنني سمعت الكثير من المدح خلال تجاربي كمديرة أو قائدة والكثير من النقد أيضاً.
لطالما أردت مساعدة رؤسائي وفريق عملي في الوصول لهدف عملي، وأردت أن أظهر شيئاً من التعاطف دون أن يحملني ذلك مسؤولية شخصية أكبر من طاقتي على التحمل، وهذا أمر صعب للغاية، لأنه يتطلب موافقة جميع الأطراف. رأى البعض أنه من الحماقة أن أهتم لأمر الناس، بينما رأى البعض الأخر أنني لا أهتم بالقدر الكافي. أعترف بأنني أقدم نموذجاً محيراً للبعض، فأنا حقاً أهتم بمن حولي ولكنني أرفض التورط، أحترم مساحات الناس الشخصية وأريد منهم احترام مساحتي الشخصية وخصوصيتي أيضاً، فكيف يمكنني شرح أنني فعلاً مهتمة بمعرفة ما إذا كنت بخير ولربما يمكنك أن تغادر مكان العمل إن لم تكن بخير ولكنني لا أرغب في معرفة تفاصيل حالتك الذهنية إن كان الأمر شخصياً للغاية؟
خلال تجاربي المتواضعة، تعلمت أنه لا ينبغي أن أتورط عاطفياً في عملي، لأنني قد أتخذ قرارات غير محسوبة إن تورطت، ولكنني، رغم ذلك، تورطت عدة مرات ونتج عن ذلك خسارة تحملت ثمنها. وعدت نفسي بأن أكون مخلصة لمهنيتي فقط وأن أراعي قيمي، ولكنني انحرفت عن المسار، فأخلصت لغيري ونسيت أحلامي عدة مرات لأسعى لتحقيق أحلام آخرين يهمني أمرهم. وعدت نفسي بأن أجد التوازن المطلوب، فوجدتني أبذل جهداً لا ينتهي لبناء النفس، حيث أخسر يومياً جزءاً من روحي في التعاملات السياسية والاحترافية التي تجبرني على حساب كل كلمة مكتوبة ومنطوقة حتى أظل على قدر من الاحتراف لا يتناسب مع كوني في الأصل إنسانة حساسة جداً.
لم أعُد أحب أن أفسر أي تمييز حدث معي على أنه متعلق بكوني امرأة، وذلك حفاظاً على سلامتي النفسية، فأحاول أن أقنع نفسي بأن هذا التمييز شائع في العموم ولا علاقة له بجنسي أو ملابسي. بيد أنه في حقيقة الأمر كل شيء في العمل يتعلق بجنسك وخلفيتك الاجتماعية وشخصيتك ومن ثم تأتي مهاراتك التقنية. كل هذه الأمور قد تحسم صفقات ومعاملات وأيضاً ترقيات، وكل ذلك يتطلب عملاً شاقاً لشخص ينتمي للطبقة المتوسطة الدنيا مثلي، فحاولت التعلم عن كل هذه الأمور خلال مسيرتي المهنية، فتارة كنت أواجه صعوبة في التأقلم وتارة كنت أفاجئ بسرعة تأقلمي وتفهمي.
تعلمت أن الفرص رزق، لقاء الناس ما هو إلا دعوات من الله لكي نلتقي ونعرف ونتحدى ونُعلم بعضنا البعض، ومن الممكن أن يكون لنا نصيب في حياة الآخرين لفترة من الزمن. تخيّل السحر، تولد أنت في مكان ما ويولد شخص آخر في مكان مختلف، ثم تلتقيا لفترة من العمر لتنتهي هذه الفترة ويكمل كل منكما مهامه بمنتهى السلاسة، بغض النظر عن التوابع العاطفية لذلك.
خلال سنوات عملي، برعت في ارتداء قناع لا يظهر مشاعري حتى أظهر بصورة رسمية جدية، فلا يستطيع أحد اختراقي والتلاعب بي أو التأثير على قيمي، فكان ذلك دائماً سلاحاً ذا حدين. ربما يحترمك الناس بسبب هذا القدر العالي من الاحترافية وربما يتعاملون معك على أنك إنسان آلي مثلما وصفني أحد زملائي في غيابي لأنني عملية. في هذا الموقف، تخيلت نفسي مكان ساندرا بولوك في فيلم the proposal عندما نعتها زميلها بأحقر الألفاظ فتظاهرت بالقوة أمامه ثم ذهبت للبكاء من بعدها.
لم أكن أعرف كيف يخسر الإنسان روحه إلا عندما اندمجت في العمل حتى برعت في إخفاء مشاعري حتى لا يصدر مني حكم على شخص أو موقف ومن ثم أضطر لتبرير موقفي. بمرور الوقت، أدركت أن ذلك أثر على اندماجي الإنساني أيضاً وأصبحت ردودي محسوبة وتفاعلاتي محدودة للغاية. هناك لحظات قليلة سمحت لنفسي أن تظهر حقيقتها كاملة، فكنت تلك الفتاة الطيبة الحنونة التي لا يهمها سوى أن تكون بصحبة أشخاص لطيفين.
آثرت اختيار عنوان "إنسان آلي" لأذكر نفسي بأنني كنت أحاول أن أحافظ على قدر من العملية والإنسانية في الوقت ذاته، فأدركت بأن الجمع بين هاتين الصفتين قد يكون صعباً في بعض المؤسسات وسهلاً في أخرى. أنا فخورة بلحظات كنت قد اخترت فيها إظهار ضعفي أكثر من قوتي وفخورة بقرارات كانت سبباً لأتعلم بأنه أحياناً لا ينبغي أن يرى أحد منا سوى ما نريد أن نريه للعالم. أنا على أتم الاستعداد اليوم لأتعلم شيئاً جديداً كل يوم، ولكنني أرغب في أن أكون حيّة، وأن أشعر بشيء بداخلي يتحرك ويستشعر الحياة، فأكون إنسانة بعيدة كل البعد عن الآلية. سأتذكر ذلك دائماً وأبداً.