”هنا القاهرة. السابعة صباحًا. نشرة أخبار مصر.“
تدور أمي في المنزل كما النحلة، توزّع مهام يومها على إيقاع برامج الإذاعة المصرية. في الصباح تُشرف على طيورها، تُحضّر الإفطار، ثم تنصرف إلى عملها.
تعود في تمام الثانية ظهرًا، ونعود معها من المدرسة، خمس دقائق مشيًا لا أكثر، من باب المدرسة حتى باب بيتنا.
حتى الخامسة مساءً، تدير المؤشر نحو إذاعة الشرق الأوسط، حيث برنامج “تسالي“، وربما بعدها تمثيلية جديدة. نسمع سويًا صوت صباح، سعاد حسني، وعمر الشريف في “الحب الضائع“. أسأل أمي: ”مين سعاد؟“
تردّ: ”دي سعاد بتاعة خلي بالك من زوزو.“
لكنني لم أكن أعرف ”زوزو“. كل ارتباطي كان بالصوت، لم يكن هناك تلفاز.
أما صباح، فأعرفها جيدًا، من غنائها في الإذاعة، ومن صوت أمي وهي تغني:
”حبيبة أمها، بكرة بنتي تكبر وتروح المدرسة، ويقولوا عليها شاطرة، وهتبقى مدرسة“
وأحيانًا ”مهندسة“، على حسب مزاج أمي.
تدور أمي في دوّامة لا تهدأ: مهام المنزل، ثم المذاكرة، ثم دفاترها. بعد منتصف الليل، أو قبله بقليل، يهمس في الخلفية صوت ”ألف ليلة وليلة“. وقبل الفجر بساعة، تبدأ إذاعة القرآن الكريم، وتظل معنا حتى السابعة صباحاً.
نستمع للدكتور هاجر سعد الدين في ”رأي الدين“ ونصغي إلى القرآن معًا.
تكتب أمي كثيرًا وراء الإذاعة وتسجّل الأدعية في دفترها، تكتب نشرة الأخبار بخط يدها، ثم تطويها في ورقة وتضعها في حقيبتي.
كنت أقرأها في طابور الصباح
كنت أنا، صوت الإذاعة المصرية في مدرستي.
روتين أمي كان مضبوطًا على مواعيد الإذاعة، حتى بتُّ أتصوّر ما كانت تفعله مع كل برنامج.
الفجر: إذاعة القرآن الكريم، تليها الصلاة والاستعداد لبدء اليوم.
من الصباح حتى الظهر: البرنامج العام، وفي الخلفية تُحضّر الإفطار، ثم تنصرف إلى عملها.
العصرية: إذاعة الشرق الأوسط، حيث لحظات من الاسترخاء بعد الغداء، وربما فنجان شاي، ثم العودة للمساء مع البرنامج العام، إلا إن كان هناك مسلسل إذاعي ”تقيل“ على الشرق الأوسط، بصوت الست إيناس جوهر مثلًا — لا يُفوَّت.
أما يوم الجمعة، فله طقوسه الخاصة:
تبقى إذاعة البرنامج العام في خلفية البيت، وأمي تُحضّر الطعام وتتهيأ للصلاة في المسجد، حاضرًا.
كان بيتنا أقرب بيت للمسجد، وكانت أمي أول من يذهب إلى مصلى النساء.
نسمع صباحًا صوت ”أبلة فضيلة“ وحكاياتها للأطفال، ثم برنامج ”٢٥٧٨٧١٢٠ إذاعة“، البرنامج البوليسي، حيث تُذاع قصة غامضة: جريمة قتل أو سرقة، ويبدأ المستمعون في تخمين الحل عبر المكالمات، حتى تُذاع النتيجة في نهاية اليوم
قضيت عشر سنوات من عمري على هامش الإذاعة المصرية. كانت حاسة السمع هي الوسيلة الأهم، لي، ولأمي معي.
اليوم، حين أسمع صوت نشرة الأخبار أو موسيقى برنامج قديم، يعود البيت كما كان. تعود أمي وهي تدندن ”حبيبة أمها“،وأتذكر أن الطمأنينة كانت يومًا صوتًا، لا مشهدًا.
—
إليكم بعض المصادر
١. برنامج الدكتورة هاجر سعد الدين
٢. برنامج ٢٥٧٨٧١٢٠ إذاعة
٣. ألف ليلة وليلة
٤. سهرات إذاعية
٥. برنامج تسالي
❤️
كلامك فكرني بذكريات الطفولة الجميلة .. أشترك معك في جزء كبير من تلك الذكريات يبدو اننا ننتمي الى جيل واحد وفعلاً كانت الإذاعة او الراديو تعني لنا الكثير وحاسة السمع كانت بدون شك هي المسيطرة وكانت تأخذنا الي عوالم من الخيال والمتعة والسعادة والشعور بالدفيء والأمان. شكراً على المشاركة مي. أسلوبك ممتع وسلس.