لا أستطيع أن أحصي عدد المرات التي نصحت فيها الأصدقاء والمعارف الذين يمرون بأزمة نفسية بطلب المساعدة المتخصصة. كان ذلك في وقتٍ لم يكُن الذهاب إلى الطبيب النفسي أو المعالج قد أصبح شائعاً كما هو اليوم، بل كان أشبه بمغامرة تحتاج إلى جرأة غير معهودة في ظل وصمة اجتماعية لا تراعي هذه الحاجة، وتكلفة مادية تُسبّب لك أزمة نفسية جديدة ومخاوف متعلقة بالخصوصية في بلد من النادر ألا تربطك فيه علاقة قرابة أو معرفة من أي درجة بأي عابر في الطريق!
****
جلست وسط مجموعة من الناس الذين ينتظرون الدخول إلى جلساتهم إما مع الطبيب النفسي أو المعالجين الذين يعملون معه في نفس العيادة، وكانت فرصة جيدة لتأمل ما يجري في واحدة من آخر زياراتي لذلك المكان.
كنت قد بدأت بمشوار الرعاية النفسية قبل ذاك الوقت بسبع سنوات على الأقل، وكان من يعرف هذه المعلومة يثمن تلك الشجاعة "النادرة" برأيه. بعيداً عن الكلفة والمخاوف المتعلقة بالخصوصية، كنت أدرك بأن كثيرين كانوا يتمنون اتخاذ هذه الخطوة والبوح بكل ما يحدث معهم، ولكنهم كانوا، حتى ذلك الحين، يخشون من سلوك هذا الطريق لأسباب متعددة.
كان البعض ما يزال يخشى الوصمة الاجتماعية المنتشرة بشكل أكبر في ذلك الحين، والتي تعتبر أن من يحتاج إلى الرعاية النفسية هم فقط "المجانين" والذين يعانون من أمراض نفسية عسيرة يستحيل أن تسمح باندماجهم في المجتمع، إلى جانب أولئك الذين لا يؤمنون بالله بما يكفي، فلا تقيهم صلواتهم من الوقوع في الأزمات النفسية.
نرى هذه الفكرة الأخيرة بوضوح في تعليقات الناس على الأخبار المتعلقة بالانتحار، حيث تميل الغالبية العظمى إلى اتهام الشخص الذي قرر إنهاء حياته بالكفر، حتى وإن كانوا على علم بأنه يُعاني من أزمات نفسية شديدة، وبأن السبب يكمن في ابتعاد الناس عن الدين وعدم تسليمهم بقضاء الله وقدره. بيد أن هذه الفكرة ليست شائعة في المجتمع الأردني وحسب، فهناك تجارب مشابهة في بلدان كثيرة يتم التشكيك فيها بإيمان من يعاني من أي اضطراب نفسي.
أذكر بأنني قرأت مقالاً كتبته جميلة حكمون، المقيمة في المملكة المتحدة، في كتاب "ليست مجرد برقع" عن معاناتها مع القلق، الذي كان يعيق سير حياتها بشكل ملحوظ، والخطاب الذي يعتبر بأنك لا يمكن أن تكون "مسلماً ومكتئباً في الوقت ذاته". في هذا المقال، استعرضت جميلة كل أسباب القلق في محيطها، بدءاً من الصلات التي تربط المهاجرين ببلدانهم الأم، التي تعاني في الغالب من ويلات الحروب والكوارث، وصولاً إلى الصعوبات التي يواجهها هؤلاء في موطنهم الجديد من تمييز وحرمان وغير ذلك. في هذا السياق، تجادل كاتبة المقال بأن الحل لا يُمكن أن يُختزل بالصلاة والصيام، وبأنه لا يمكن أن تكون هناك وصفة واحدة تصلح للجميع.
بعيداً عن هذه الأسباب، كان هناك أيضاً من يرى بأن مثل هذا العلاج الفردي ترف في مجتمع يحتاج إلى حلول جماعية، إذ لا يُمكن مثلاً أن نهدر طاقاتنا في علاج ضحايا العنف بدلاً من توجيه هذه الطاقات إلى محاسبة مرتكبي العنف ومنع وقوعه من الأساس.
أما في تلك الزيارات الأخيرة، شعرت وأنا جالسة هُناك بأن الكثير من هذه المخاوف والأفكار قد تغيرت بالفعل، بحيث أصبح الناس أكثر إقبالاً على طلب المساعدة، وإن كان هذا التغيير محصوراً في دوائر محدودة بالطبع. على الرغم من أنني لم أشعر بأن أحداً من الجالسين كان يشعر بالعار لمجرد رؤيته ينتظر دوره في عيادة نفسية، إلا أن التجربة لم تكُن مثالية على الإطلاق.
نسمع من غرفة الانتظار صوت الشخص الذي يتحدث إلى المعالج في غرفة يُفترض أن تكون مقفولة، نستطيع أن نعرف كلنا ما يحدث في حياته وكيف يشعر حيال ذلك، وسوف نرى وجهه بعد دقائق معدودة. ترد السكرتيرة على الهاتف الذي لا يتوقف عن الرنين، فتأخذ بيانات المتصل على مسمع كل الجالسين، بل وقد يلح عليها بطلب استشارة سريعة من المختصين، فتجتهد وتُحاول تلخيص قصته في بضع عبارات، فنسمع بأن زوجته تعاني من اضطراب ما يجعل من الصعب عليه الاقتراب منها.
يحين دوري، فأدخل إلى غرفة المعالجة التي أحالني الطبيب إليها، والتي تستغرب أحياناً من انقطاعي عن جلسات العلاج السلوكي وتتعامل مع التكلفة كما لو أنها تُعادل وجبة "شاورما عربي"، بينما هي تُعادل في الحقيقة وجبة كاملة في أرقى فنادق البلاد.
الحقيقة أن الكلفة تُزعجني، ولكن ما يُزعجني أكثر منها هو أنني أدفعها ويُنسى اسمي، فأعذرها لأنها تلتقي بأشخاص كثيرين كل يوم، ولكنني أتساءل أيضاً إن كان التحقق من الاسم يحتاج إلى جهد كبير إلى ذلك الحد. بعد الانتهاء من فقرة الاسم، تُروى على مسامعي تفاصيل لم أقلها، كأن تسترجع معي المعالجة أبرز مسببات الألم النفسي، فتقول "أتفهم بأنك انفصلتِ عن خطيبك" في وقت لم يكُن هذا قد حدث أساساً. أحاول أن أجد لها أي مبرر، مثل الإنهاك والتعرض لعدد كبير من القصص الشخصية كل يوم، ونُكمل، ولكنها تتحدث أكثر مما تسمع وتسهب في شرح أفكار أفهمها جيداً دون كل تلك الأمثلة التوضيحية التي يستغرق شرحها دقائق طويلة تكلفني في الحقيقة الكثير من المال.
انتهت الجلسة، ولم أعرف إن كنت أرغب بالفعل بحجز موعد قادم. تعلمت من تلك الجلسات تمريناً واحداً مفيداً للتخلص من القلق وفكرة واحدة تشرح لي سبب استمراره، فاكتفيت ولم أعُد إلى تلك العيادة أو غيرها، بل وأتردد اليوم كثيراً قبل اتخاذ مثل هذا القرار مجدداً.
***
ما زلت مؤمنة بأهمية الرعاية النفسية، بل وبأهمية أن يشملها التأمين الصحي في بلادنا. وأشعر بشيء من الامتنان حتى لمن أنتقدهم من مقدمي هذه الخدمة، لأنهم بالفعل ساعدوا في مسيرتي للتخلص من تراكمات أعاقت سير حياتي بالشكل الذي أريد.
بيد أنني أصبحت أكثر حرصاً عند انتقاء من أرغب في زيارتهم، خوفاً من أن يكون التأثير السلبي أكبر من الإيجابي. هم جميعاً بشر، يصيبون ويخطئون، وفي أحيان كثيرة، يتمسكون بنظرية واحدة لتفسير ما يحدث معك حتى يكاد بعضهم لا يسمعك حين تقول بأن تفسيرهم يجانب الواقع.
أنت تتحدث عن ألم تشعر به، وهم ينظرون إليك أحياناً دون أي تعاطف، بل قد يبتسمون ابتسامة "العارف" الذي ينتظرك لتكتشف بنفسك إلى أي حد أنت موهوم. لا أستطيع الجزم بأنهم كانوا مخطئين في التفسير، ولكنني متأكدة من أن هناك طريقة أفضل لإيصال المعلومة دون أن يشعر الشخص المقابل بأن من يُفترض بأنك لجأت إليه لأنه لن يصدر أحكاماً قد بدأ بإصدارها بالفعل!
♥️