لم أفتح يومًا نافذة جديدة على متصفح الانترنت بينما أنا أمارس العمل الذي أكسب دخلي منه وأمقته في آنٍ واحد لأتخيل كيف ستكون حياتي في القاهرة. لم تكُن من بين المدن التي تواسيني في ساعات الملل، ولكنها بدت لي، في ذلك الصباح، مدينة جميلة، والسر أنني مررت بالنهر الذي لا يجعلها محتملة وحسب، بل يجعلها ساحرة بالفعل بالقرب منه.
فكرت في رغبتي في أن "أشبع منها"، فحتى وإن لم تكن لدي خطة لمغادرتها قريبًا، فقد أصبحت، منذ أن تركت عمّان، أشعر بأن وجودي في أي مكان هو وجود مؤقت، ولم أعُد أبالي بالفكرة. بالفعل، لم أعُد أتعلق عاطفيًا بالأماكن إلى الحد الذي يجعلني أنهار عند مغادرتها كما كنت في السابق.
"سوف أستيقظ في ساعة مبكرة جدًا، وأقود السيارة لمدة 20 دقيقة مثلًا، لأمارس رياضة المشي على كوبري قصر النيل وأرى القاهرة خالية من الناس" أو "ربما يكون من الأفضل أن آتي لمشاهدة غروب الشمس"، كلها أحلام يقظة قد تتحقق مرة واحدة فقط، ولكنها تُشعرني برغبتي في امتصاص كل ما في المكان من جمال حتى تحين لحظة الانتقال إلى وجهة أخرى غير معلومة. ولكنها تظل فكرة، لا خطة محكومة بمواعيد.



وصلت إلى السفارة لتقديم طلب لابني العزيز لرحلة قصيرة المدة. وقفت بين طابور المتقدمين، الذين يسلون أنفسهم بأحاديث خفيفة، وأحيانًا ثقيلة، يشاركون معلومات لم يطلبها أحد، ومن ثم يمر رجال الأمن ليكرروا التعليمات على مسامع الواقفين، مستمتعين بسلطة تنظيم الدور وتعليم أبناء جلدتهم أصول الوقوف في الطابور واتباع الإجراءات للظفر بالتأشيرة. يضيق صدر البعض بالأسئلة المتكررة، ويذكرون السائل بأن دوره سيحين بعد قليل، وسوف ينادون عليه، ويا له من شرف!
يقف الجميع بالقرب من شباك المقابلة، فنسمع كلنا سبب زيارة كل شخص. هذا ذاهب لحضور بطولة رياضية مهمة، وآخر لزيارة ابنته المقيمة هناك، وثالث لحضور حفل زفاف. كلها أسباب لم تبد مقنعة، مع أن بعضها، على الأقل، حقيقيًا جدًا. المضحك أن هناك عددًا لا حصر له من الفيديوهات التي تنصح المتقدمين بقول الحقيقة وبأن يتصرفوا على سجيتهم، وذلك لأن الكذب لا ينطلي على الموظفين. ربما تكون هناك فكرة أفضل، لمَ لا يضعون المصاحف ليقسم المتقدمون بأنهم يقولون الحقيقة؟
دقائق معدودة، ثم يتفوه الموظف باعتذار بارد، ويقول: آسف سيدي (قمة الأدب)، أنت غير مؤهل للفيزا اليوم. ومن ثم يسحب ورقة زرقاء توضح السبب. هو السبب ذاته لمئات المتقدمين في كل يوم، ورقة زرقاء لا تشرح شيئًا سوى أن الأنشطة التي ذكرتها لا تنسجم مع نوع التأشيرة الذي تقدمت للحصول عليه (ليست هناك قائمة بالأنشطة المسموحة والممنوعة أثناء الزيارة)، ولم يقل أي شخص بأنه ذاهب للعمل مثلًا. ما علينا. ثم توضح الورقة بأن المتقدم لم يقدم ما يكفي من الأدلة لإثبات نيته الصادقة، التي لا تشوبها شائبة، في العودة إلى المحروسة.
الحقيقة أن أحدًا لم يسأل عن العودة. كل الأسئلة تدور حول طبيعة العمل الحالي (سؤال تستغرق الإجابة عنه أقل من عشر ثوان)، وسبب الزيارة والبلدان التي سافر إليها المتقدم. أهذا يثبت أي شيء؟ مهلًا، تقول الورقة إن المتقدم يستطيع إعادة تقديم الطلب في أي وقتٍ آخر، ولكن ما الذي سيتغير إن دفع الرسوم "غير القابلة للإعادة" مرة أخرى؟
بدلًا من السؤال عن سبب الزيارة أثناء المقابلة، أعتقد أنه من الأفضل تخصيص الوقت الكافي للسؤال التالي: ما الذي يُجبرك على العودة؟ قد يسرد البعض الكثير من الأسباب العاطفية، فربما يكون "فيها حاجة حلوة"، مثل النيل، والعلاقات الاجتماعية الأوسع، والصباحات الباكرة، والأنشطة الليلية المتأخرة، والضوضاء الصوتية المألوفة، والايفيهات اللانهائية، وغيرها، ولك الحق في تصديق الكلام أو السخرية منه. وربما يكون "ما فيهاش ولا حاجة حلوة"، ولكن المتقدم بالفعل مجبر على العودة لرعاية والدين طاعنين في السن مثلًا، أو غير ذلك من الأسباب التي تمنع إنسانًا من حزم أمتعته بين ليلة وضحاها والسفر إلى ما وراء المحيط.
لذا، عزيزي الموظف، أنصحك بجلب مصحف وانجيل للضرورة، وتحويل السؤال إلى الصيغة التالية: ما الذي جعلك تعيش كل هذه السنوات هنا؟ ربما تفهم حينها أن الناس لا يجب أن يوضعوا في سلة واحدة. ولكن لمن أوجه النصيحة؟ لقادمٍ من عالم لا يرى إلا نفسه ولا يهتم إلا بمصلحته ولو احترق العالم بأسره؟ نعم، أمارس ذات الفعل وأضع، على الأقل الموظفين الممثلين لسياسة الدولة، في سلة واحدة تليق بهم.