قبل ما يقارب أسبوعين، انقطع اتصالي بالإنترنت من بيتي في القاهرة للحظات. ظننت أنه انقطاع معتاد، فعاودت الاتصال بالشبكة عن طريق "الهوت سبوت" من هاتفي، ومن ثم انشغلت بالعمل من المنزل.
بعد انتهاء ساعات دوامي، كان لدي موعد مع صديقة في النادي، وكنت متحمسة لتلك اللحظات الحقيقية، أن ألتقي بشخصٍ ما وجهًا لوجه، نمشي معًا، ولا ننفق أكثر من عشرين جنيهًا، ووسيلة المواصلات إلى البيت هي قدماي.
عند نزولي من المنزل، لم أجد سيارة "أوبر"، فقررت أن أطلب سيارة تاكسي، كما كنا نفعل في الأيام الخوالي. علاقتي بالتاكسي الأبيض في القاهرة علاقة يغلب عليها الشك وانعدام الثقة، فلا ألجأ إليه إلا عند الحاجة ولقضاء مشاوير قصيرة.
لم أكن أحمل "الكاش"، فقد ازداد اعتمادي على الدفع الإلكتروني مؤخرًا حتى أصبحت لا أحمل النقد إلا فيما ندر. ذهبت إلى الصرّاف الآلي، ووجدت حشدًا من الناس أمامه، ولكنني لم أعلم ماذا حلّ بهم ولماذا تجمّعوا بهذا العدد في هذا الشارع الهادئ. خمّنت أنهم ذاهبون إلى حفل أو فعالية في موقعٍ قريبٍ من هنا. أدخلت البطاقة، سحبت ٤٠٠ جنيه، ثم خرجت، وأوقفت سيارة تاكسي أوصلتني إلى النادي.
الساعة الآن السابعة مساءً. لا أعلم حقًا ماذا يحدث في القاهرة. وصلت إلى النادي، ومن ثم قرأت بعض الرسائل من فريق العمل تتحدّث عن انقطاع كامل للإنترنت طوال اليوم، وشاركوا "الميمز" مُعبّرين عن شعورٍ جماعي بالإحباط.
علَّمتني علاقتي بالقاهرة الصبر، على بطء الإنترنت، على تأخر سيارات "أوبر"، على الخدمة البطيئة، وغيرها. أكره كل هذه الأشياء وأحبّها في الوقت ذاته. حتى مع كل هذه العلامات، بدا لي هذا اليوم عاديًا إلى أن أدركت أنني من المحظوظين القلائل الذين لم يتأثروا بانقطاع شبكة الإنترنت. السبب بسيط، وهو أن اتصال كل الشبكات بالإنترنت تعرّض لانقطاع ما عدا شبكة واحدة وكل البنوك ما عدا واحدًا. ولحسن الحظ، للمرة الأولى أكون أنا من عملاء الجهات غير المتضررة.
***
هل تعلم، عزيزي القارئ، ماذا يعني ألا يتصّل أبناء وبنات جيلي بالإنترنت؟
حياتنا وأفكارنا وتواصلنا وهروبنا من الواقع كلها تحتاج لهذا الهاتف الذي لا يفارق يدنا. كيف نعيش بدون إنترنت وهو المعلم والمُشتّت والصديق؟
تساءلت كثيرًا: ماذا سنفعل لو انقطع الإنترنت تمامًا؟ هل لدي ما يكفي من المرونة لكي أواصل الحياة دون أن أبحث عن طبخة أريد تجربتها على "يوتيوب" أو أطلب مساعدة الذكاء الاصطناعي في ترتيب أفكاري ومساعدتي على التعلُّم؟
عندما وقع الأمر بالفعل، سمعت من يتحدّث عن العار الذي لحق بالمصريين لاتصالهم كلهم بمركز اتصال واحد في رمسيس، بينما العالم كله يتسابق على اللحاق بركب الذكاء الاصطناعي.
لا أعلم إن كانت كلمة "فضحتونا" موجودة في قاموسنا نحن فقط أم إنها موجودة في قاموس كل دول العالم، إذ دائمًا ما نشعر بالعار إذا ما تصرَّف واحد منّا بطريقة مُخزية، فتبادر مجموعة منّا بالاعتذار حتى تُبيِّض سمعتنا. من سرقة اللوحات إلى انقطاع الإنترنت، لا نكفّ عن الإحساس بالعار. وسارعنا إلى السخرية من تجربتنا قبل أن يسخر منّا العالم.
نعود للسؤال مُجدّدًا: ماذا يعني ألا يتصّل أبناء وبنات جيلي بالإنترنت؟
ربّما نعود للعمل في وظائف حقيقية بدون وسائل رقمية؟ كثير من المهن، كالعمل في التجارة الإلكترونية، ما هي إلا متجر "عمو محمد" ولكنه متجر رقمي وبه أكثر من عمو محمد واحد، والأمر ذاته ينطبق على العاملين في مجال النقل الرقمي، كشركتي "أوبر" و"كريم".
الإنترنت هو النافذة التي نُطلّ منها على العالم. نعم، هذا الكليشيه حقيقي. نستخدمه للعمل بالتأكيد، فجزء كبير من الموظفين اليوم يعملون بالنظام "الهجين" الذي يجمع بين العمل عن بُعد والحضور الشخصي، وهناك شركات تعتمد بشكلٍ كلي على الإنترنت والاتصالات.
يعتمد معظمنا على منصات مثل "يوتيوب" و"تيك توك" لا لقتل الوقت وحسب، بل للحصول على إجابات لأسئلة مثل: كيف نطبخ؟ كيف نتخطّى المشاكل؟ كيف نُحبّ؟ كيف نلبس؟ كيف نعتني بأنفسنا؟
ثم كيف لنا أن نقضي يومنا دون أن نتطفل على حياة بعضنا البعض أو على الأقل على ما اختار البعض نشره أو تزييفه على المنصات المختلفة؟ كيف لنا أن نعيش دون جرعة القلق اليومية الناتجة عن مقارنة أجسادنا بأجساد الموديلز وبيوتنا ببيوت المؤثرين؟ كيف نعيش بدون هذا الوعي الجمعي الذي نشأ بفضل المدونين الذين نشروا همومهم وأفكارهم عن الحرب والسلام على منصات الإنترنت؟ هل نعود للإعلام المُوجّه ليرينا العالم من وجهة نظر الأنظمة الحاكمة؟ وأخيرًا وهو الأهم: كيف نعيش بدون "ميمز" تسخر من يومنا وهمومنا؟
أحب الإنترنت وأدين له بالكثير، فقد تعلَّمت منه عن عملي وحياتي الشخصية، وساعدني في الاعتماد على نفسي وتنظيم حياتي وتحسين مهاراتي ومتابعة اهتماماتي. كما أنني مدينة له لأنه جعل العالم قريةً صغيرةً كما كنا نسمع في المدرسة.
أجد الإلهام في عمل شخصٍ ما لم أقابله قط من اليابان، أو امرأة من إيطاليا تنشر وصفاتها، أو فتاة في لبنان تطبخ للعالم كله، أو فنانة تكتب عن القلق ويعرفها العالم لصدقها. أذكر ذلك الرجل الذي أنشأ قناة كاملة على يوتيوب تُدعى "Dad, how do I?" ويشرح فيها لكل ابن فقد أباه مثله كل شيء كان يتمنى لو أنه عرفه من أبيه. أذكر قنوات ربات البيوت ومليارات المشاهدات لشجارات مفتعلة مع حمواتهن، والفن والأدب والهراء وكل شيء بينهما.
أعلم جيداً أن مستويات القلق لديّ ستقلّ لو قلّلت من استخدام "إنستجرام"، لكنني لا أقوى على تفويت المعرفة. أشعر بفضول لمعرفة ما يحدث ولأعيش حالة القلق الجمعي والألم لما يحدث حولنا.
عندما انقطع الإنترنت عن مدينتي، لم أشعر بأي شيء، ولكنني أعلم جيدًا ما شعر به كل شخص لم يكُن قادرًا على الاتصال بالإنترنت في ذلك اليوم. لسنا مؤهلين للعيش دون تلك الشبكة، فنحن معتمدون عليها بالكامل. سأظلّ أذكر ذلك الرجل الذي قام بتحديث بروفايل "لينكد إن" الخاص به بعد أكثر من عشرين سنة من العمل في الشركات الرأسمالية ليُخبر متابعيه بأنه افتتح مزرعة أغنام، فكتب له أحدهم في التعليقات "لم يهرب من الشبكة بعد، لقد قام بتحديث بروفايله".
احسنت