أتذكر من أكون قبل هذا العام تحديدًا.
تغيرت في جوانب عدة، إذ لم أعُد نفس الشخص، أحاول أن أتذكر من أكون فأجد صعوبة في ذلك، ومن ثم أبحث عمّا ينبغى أن أكون، لربما تكون الإجابة أسهل.
لم أشعر في حياتي بكم الاغتراب الذى شعرت به في النصف الثاني من هذا العام، حيث قررت أن أترك الوظيفة بدوام الكامل لأعمل على مشاريع صغيرة إلى جانب وظيفة بدوام جزئي، واتخذت هذه الخطوة بالفعل. قررت أن أخلق وقتًا لنفسي، للتعلم والتواصل مع الجانب الإبداعي مني ولأحاول أن أكتشف حقًا من أكون وما هي خطواتي التالية دون تعجل وبدون أن ألقي بنفسي في وظيفة أخرى تسلب مني وقتي كله فلا أجد مساحة لأي جديد.
مشيت في أحد الأيام للمسجد الذي يقع بالقرب من منزلي، فوجدت مجموعة من السيدات يقرأن القرآن وانضممت إليهن. كنت أعلم منذ رمضان الماضي أن هناك درس كل يوم ثلاثاء، وكنت قد عقدت العزم على طلب العلم. من يعرفني عن قرب يعرف أن قلبي متعلق بالمساجد، فكانت هذه فرصة جيدة للذهاب للمسجد مرة واحدة في الأسبوع حتى بعد انقضاء شهر رمضان.
تعرفت على مجموعة من السيدات اللواتي ينتمين إلى جيل والدتي، وكن يحفظن القرآن، ولما وجدن أنني أصغرهن رحبن بي وقررن أن يعدن تعليمي التجويد وحفظ القرآن. أنا في الحقيقة كنت ذاهبة للاستمتاع بالصحبة فقط، ولم يكن لدي رغبة بالحفظ أو التعلم، ولكن ربما نظرت للأمر على أنه دعوة تجب تلبيتها، فقررت أن أحفظ معهن. شعرت هنا بأول شعور بالاغتراب، إذ لطالما كانت علاقتي بالقرآن معقدة، ومن ثم تحسنت العلاقة حين نضجت وكبرت، ولكنها لم تتعمق قط. كنت أزداد قربًا منه في شهر رمضان فقط، ولكن الوقت لم يكُن كافيًا أبدًا، ولم أفلح في الاستمرار في التبحر في القرآن وفهم المزيد بعد انتهاء شهر رمضان مهما حاولت.
شعرت باغتراب وحزن شديدين لأنني تركت أهم منهج لي لمجرد أنني تعرضت للتعنيف من بعض المؤسسات والأفراد الذين نصبوا أنفسهم للتحدث باسم الدين. كيف ابتعدت عن قراءة القرآن ومحاولة فهمه لمجرد أن هناك بعض المتطرفين الذين عرفتهم في حياتي؟ أدركت بأنني اليوم أكبر وأقوى وأكثر نضجًا، وعاهدت نفسي بألا أترك ما بدأت به، حتى لو تعرضت لنفس التعليقات والتعنيف المبطن، وسوف أكمل هذه الرحلة بإذن الله.
ما بعد غزة
تزامنت أحداث غزة مع بدء مرحلة التغيير وإبطاء إيقاعي في العمل. في ذلك الوقت، كنت أعمل على مشروعين في نفس الوقت، وأحاول الالتزام بما عاهدت نفسي عليه، فأقلص الوقت المخصص للعمل وأتابع دروسي وأحاول العودة لممارسة الرياضة. بيد أنني شعرت بأنني أتعثر نفسيًا ما بين كل هذه الأشياء، خصوصًا أن أحداث غزة كانت تستنزفني بشكلٍ كبير، ما دفعني إلى التخلي عن مشروع والاستمرار في واحدٍ منهما فقط. هكذا قررت أن أقلل عدد ساعات العمل مرة أخرى، ووعدت نفسي بألا أتجاوزها، وأن أتابع الأحداث وأتحدث وأدوّن عنها، فهذا أقل ما يمكن تقديمه لإخوتي في غزة. انشغل جزء مني بمتابعة ما يحدث في السودان وإدلب، ولكن كان لغزة بالطبع نصيب الأسد من التعاطف والمشاركة ومحاولة التعلم.
اغتراب
شعرت بالاغتراب بسبب الكم المهول من المعلومات التي أخذتها عن الغرب دون أن أدرك بأنهم لا يعيرون ثقافتي أي أهمية. لا أندم على الاطلاع، ولكنني حقًا أشعر بصدمة شديدة لأن هويتي لم تكن تعني لهم شيئًا، فأنا، كإمرأة دافعت عن المساواة وحقوق المرأة طيلة حياتها، لم أكن اتخيل أن معظم المنظمات التي دعت للمساواة سوف تظل صامتة إزاء ما حدث لنساء غزة، إذ تدافع فقط عن سردية بيضاء معينة، سردية المرأة المقهورة المُعنّفة، فتلك هي القصة التي يردن أن يسمعنها عن النساء في الشرق الأوسط وعن العرب والمسلمين. أما عندما أكون فتاة قوية، ومسلمة وعربية ولا أجد مشكلة في الحجاب أو الدين، فأنا على الاغلب مغيّبة نظر معظمهم، فهم لا يريدون سماع أي سردية تشعرهم بأن النساء، على اختلاف معتقداتهن وتجاربهن، لا يرغبن في محاضرات عن الحرية والمساواة أو أي حق إنساني بينما يُنتهك الحق الأساسي في الحياة يوميًا في غزة والسودان وإدلب وغيرها.
في ذروة الأحداث في غزة، ظهرت بعض الناشطات النسويات، مثل ميشيل أوباما وأمل كلوني و ملالا يوسفزاي التي أدركت بأنها الشكل الحقيقي للمرأة التي يريد الغرب أن يدعمها، ظهرن وهن يتحدثن عن مؤتمر عن التعليم في جنوب أفريقيا على ما أظن. أي تعليم هذا الذي تتحدثون عنه بينما تُقتل النساء والأطفال في الكونغو وتُغتصب النساء في السودان وتُباد غزة كلها؟
تقود مديرة العمليات السابقة في فيسبوك، شيريل ساندبيرج، حملة كبيرة بالتعاون مع نساء قياديات حول الاغتصاب الذي تتعرض له النساء في العالم، ومنهن نساء إسرائيل اللواتي زُعم أنهن تعرضن للاغتصاب في حادثة واحدة ملفقة، بينما تغض القياديات البصر تمامًا عن نساء السودان وغزة والكونجو وإدلب وغيرهن من نساء العالم غير الأبيض الذى لا يُرى لديهم طالما أنه يتضارب مع مصالحهم. هل تعلم، عزيزي القارئ، كم كتابًا قرأت لشيريل ساندبيرج؟ هل تعلم أنني كنت أريد أن أصبح ناجحة مثلها يومًا ما؟
أشعر بالاغتراب الحقيقي عندما أدرك بأنني أردت أن أقتدي بأشخاص لا يشبهون ثقافتي، لا يرتدون نفس ثيابي ولا يتحدثون بنفس لغتي. كنت أعتقد بأنهم يحترمونني، وظننت بأنه "لا يهمني لونك لا يهمني عنوانك يهمني الانسان ولو ملوش عنوان"، ولكنني أدركت الآن أن من آمن حقًا بهذه الكلمات هم الأقلية المستضعفة، وأن العالم الغني الأبيض كان يرددها ليخدّرنا فقط ولم يحترمنا قط.
أصبت بخيبة أمل لأنني بحثت عن المثل الأعلى في أشخاص لا يشبهونني، ولا يرونني ويمتلكون امتيازات تفوق ما أتمتع به بكثير، ويتفوهون بشعارات تُشعرني بأنني قد أكون مثلهم يومًا ما. كيف سأكون مثلهم وأنا لا أتمتع بنفس الامتيازات؟ ولماذا أكون مثلهم من الأساس وأنا لا أشبهم؟ كيف صدّر لنا الغرب صورة المرأة الناجحة وكيف أرضى بالنجاح وأنا لا استطيع قول الحق؟ أي نجاح هذا إذا كان أغنى رجل في العالم قد اضطر للقيام بجولة اعتذارية في إسرائيل لينفي تهمة معاداة السامية التي رموه بها لمجرد أنه قال رأيه ونطق بالحق؟
لا سبيل للعودة
ما نشهده حاليًا من تغيير في حالتنا النفسية وحالة اليقظة العامة يدعونا لعدم العودة لدعم منتجات قد أعلنت أنها تدعم شريك يقتل أي إنسان. أنا حقًا لن أدعم أي كيان عموماً يُحرّض على القتل، ولا أستطيع أن أتخيل كيف سأعمل معهم. ربما يكون موضوع العمل موضوعًا مختلفًا، فما زلت أتساءل إن كان الحل هو مقاطعتهم أم التواجد وإثبات الذات لكي لا تُترك لهم الساحة فارغة.
يتبع..٣