مراجعة خيار العمل الحر: هل تضحي بالحرية مقابل الاستقرار؟
في هذا العام، أكون قد أمضيت أكثر من عشر سنوات فيما يُسمى بـ"العمل الحر"، الذي لا يقيد صاحبه لا بساعات عمل ولا بمؤسسة محددة. قبل سنوات طويلة، كتبت مقالًا شرحت فيه تجربتي حتى ذلك الوقت، ولخصت فيه أبرز الإيجابيات والسلبيات، حيث جادلت بأن من يعمل لحسابه الخاص يدفع ثمنًا باهظًا مقابل "حريته".
لم يتغير شيء اليوم سوى أولوياتي أنا، وأحسب أن هذا أمر طبيعي، فالمرء قد يُقدّر قيمة الحرية في السنوات التي تكون طاقته فيها في أعلى مستوياتها، ثم تبدأ هذه الطاقة بالنفاذ شيئًا فشيئًا، فيُراجع حساباته وأولوياته، ويجد بأنه يحب الحرية، ولكنه بدأ يبحث عن السكينة والاستقرار أكثر من ذي قبل. هذا ما حدث معي بالضبط، لأجد بأن علاقتي بالعمل الحر أصبحت معقدة أكثر من أي وقتٍ مضى. أعترف بأنني اعتدت على المرونة التي منحني إياها هذا النمط من العمل، اعتدت على أن أنظم وقتي بنفسي، وأن أكون متواجدة مع العائلة عندما يحتاجني أي من أفرادها وأن أكتب، عندما أكتب، دون أن أكترث بأجندة، وإن كنت مضطرة للاكتراث بسلسلة طويلة من المحظورات التي تحتم عليّ ممارسة الرقابة الذاتية.
بيد أنني بدأت أشعر بسلبيات هذا النمط أكثر ممّا أستمتع بمزاياه، فكل جانب فيه يحتاج إلى بذل مجهود هائل يقع على عاتق فرد واحد فقط، إذ تحتاج إلى البحث عن الفرص و"العملاء" الجدد طيلة الوقت، والتقدم بمقترحات وأفكار وعروض مالية، وإصدار الفواتير لكل جهة تعمل معها بطريقة مختلفة، ومتابعة دفع المستحقات، وغير ذلك من الأعمال الورقية التي تستنزف طاقتك. قد تستخدم التطبيقات الحديثة المتوفرة لمساعدتك في بعض هذه المهام، ولكنك مُجبر في النهاية على اتباع الطريقة التي يفضلها العميل، وقلما تنجح في إرغامه على القبول بطريقتك أنت.
إلى جانب ذلك، لا شك بأنني أشعر بدرجة من درجات "الوحدة المهنية" بسبب هذا النمط. صحيح أن علاقاتي مع بعض الجهات مستمرة منذ سنوات طويلة، ولكنني لا أعمل مع فريق واحد تتوطد علاقتي به كل يوم، ولا أجد من أشارك معه الأفكار كل يوم بالضرورة، بل إنني في كثير من الحالات مضطرة للانتظار حتى يفرغ الفريق من كافة أعماله ليجد الوقت للحديث معي، لمراجعة ما أنجزته ولمناقشة فكرة مشروع محتمل. باختصار، أنا لست الأولوية، فالمؤسسة لديها عائلتها ومسؤولياتها، ومن ثم لديها أنا، صديقة العائلة التي يجب أن تتفهم انشغالاتهم.
كل ذلك يخلق شعورًا بأنك "غير مرئي"، ويتفاقم هذا الشعور في حالة مثل حالتي، حيث انتقلت إلى بلد أكبر بكثير من بلدي الأم، وسوقه أوسع، وعلاقاتي فيه شبه معدومة، ما يُجبرني على التعريف بنفسي كما كنت أعرف بها حين كنت ما زلت على مقاعد الدراسة في الجامعة أرجو أي محرر أن يقدم لي فرصة واحدة، وكأنني أقسم بأنني كاتبة وبأنني أجيد هذه المهارة.
أعتقد بأنني طورت مهاراتي في الكتابة، واكتسبت خبرة جيدة في معظم المجالات التي ترتبط بها، كالترجمة والبحث، ولكنني أجد نفسي عالقة في الحلقة ذاتها لنفس السبب. كثير من فرص التطور المهني مرتبطة بمؤسسات، فهناك زمالات أو منح دراسية أو ما شابه تريد أن تدعم كتاب وصحفيين يعملون بدوام كامل في مؤسسات صحفية، وتريد أن تتأكد من أن الخبرة التي يتوقعون أن يكتسبها المشارك ستنتقل بطريقة أو بأخرى لآخرين في المؤسسة أو سيجد المشارك منصة لنشر ما ينتج عن هذه الفرصة. صحيح أن هناك بعض الفرص التي تقبل بالصحفيين أو الكتاب المستقلين، ولكن فرص وصول العاملين في المؤسسات أكبر من فرص غيرهم بسبب دعم المؤسسة.
هناك سلم وظيفي واضح في المؤسسات، وقد تنجح في الانتقال من مستوى إلى آخر بتراكم الخبرة، ولكن هذا لا يحدث بالضرورة حين تعمل لحسابك الخاص، إذ يتكون لدى عملائك انطباع بأنك تُمارس مهام معينة فقط ومن الصعب أن يكلفوك بغيرها، لأن تطور المهارات الذي تشعر به أنت قد لا يكون مرئيًا بالنسبة لهم. بعبارة أخرى، تكتسب في العادة سمعة لقيامك بعمل معين، ومن ثم يرتاح العملاء لهذا التعامل فيستمرون به دون أن يكون لديهم سبب مقنع لتغييره إلا إذا بادرت أنت بالرفض، وقلت بأنك لم تعُد تقبل بهذه المهام، الأمر الذي قد لا تملك ترف القيام به في كثير من الأحيان حتى لا تخسر عملاء شبه دائمين وتضحي بالقدر القليل من الاستقرار الذي تعرفه.
حتى مع تفاقم الشعور بهذه السلبيات، ليس من السهل الانتقال إلى مؤسسة تناسبك وتناسبها، خصوصًا وأن هناك خيطًا رفيعًا بين استقرار محمود يمنحك السكينة اللازمة للإبداع وتجريب المختلف وبين سجن يأسرك مقابل استقرار مادي فقط. تحتاج إلى وقتٍ طويل للتفريق بين الاثنين أولًا ومن ثم إيجاد مؤسسة من النوع الأول تقبل بك وتأخذ بيدك إلى إلى المكان الذي تتفقان على الوصول إليه!
—
*الرجاء مساعدتي أنا ولينا على تطوير محتوى "على سفر". نرجو أن تمنحونا دقيقة واحدة من وقتكم لملء هذا الاستبيان.