


في عيادة الطبيب (باستثناء قلة من الأطباء حتى لا أعمّم)، إن اشتكى الطفل من أي شيء، يوجه الطبيب نظره إلى الأم، يلومها على التقصير ومن ثم يوجهها إلى التصرف الصحيح مع الطفل. لم أرَ حتى الآن أي فيديو تثقيفي حول رعاية الأطفال يخاطب الجنسين، كل طبيب أو مؤثر أو مؤثرة أو أي شخص لديه القدرة على الوصول إلى اليوتيوب يوجه النصائح والتحذيرات إلى الأم حصرًا، وكأنها بطبيعة الحال أم عزباء لا أحد يشاركها هذه المهام، ولا يجب أن يشاركها. وإن حدث له أي مكروه، تجد الآلاف يسألون بصوتٍ واحد: أين أمه؟
هي، إذن، مسؤولة عن رعاية هذا الطفل من الألف إلى الياء، ولكنها ليست مسؤولة عنه أمام القانون. لو جربت هذه الأم أن تفتح حسابًا بنكيًا لابنها، سيُقال لها إنها ليست ولية أمره، وأن المخول بمثل هذه الخطوة هو والده حصرًا. تعرف هذه الأم أن معركتها ليست مع موظفة البنك، المرأة التي تشبهها ولكنها تخبرها بما ينص عليه القانون وكأنه أمر مفروغ منه ولا جدال فيه، إلا أنها تُحاول أن تفهم السبب وحسب. بعد نقاشٍ قصير توضح فيه الأم أنها مهتمة بفتح حساب لابنها كهدية له منها هي، تُحال المسألة إلى الدائرة القانونية، ومن ثم يتخذ القرار النهائي: الأم ليست ولية أمره ما لم تكُن لديها ورقة من المحكمة تفيد بذلك صراحةً. تبلغها موظفة البنك بقرار الدائرة القانونية، وتسأل ببراءة: أين والد الطفل؟
يا له من سؤال عبقري. والد الطفل موجود، وهما بأفضل حال، كل ما في الأمر أن الأم اعتقدت أن بإمكانها أن تفتح هذا الحساب لأنها فكرت فيه كهدية منها لابنها، واتصلت بالبنك قبل قدومها وتأكدت من جواز ذلك، ولكن فريق البنك لم يتفق على إجابة واحدة على ما يبدو. لم تفهم الموظفة أين المشكلة بالضبط ما دام والده موجودًا. لا توجد مشكلة، هي رغبة في فهم السبب الذي يجعل الأم غير مؤهلة لمثل هذه الخطوة، فتسأل ممّ أنتم خائفون بالضبط؟ تشرح الموظفة إن الخوف، بصراحة، يكمن في تصرف الأم بأموال هذا الطفل، الذي تفتح له حسابًا وهي غير مؤهلة لذلك. القانون، إذن، لا يعتبرك أمينة عليه حتى وإن كنت أنت من بادر بفتح الحساب وأنت من وضع له عيدية خاصة منك، من حر مالك، ويُخوّنك، بينما لا يفعل الشيء ذاته مع الأب.
الأمر برأي الموظفة لا يستحق كل هذا الجدل، فإن لم يكُن الأب قادرًا على المجيء إلى البنك اليوم، فليأتِ غدًا. لم تفهم أن ما يشغل بال الأم ليس فتح الحساب بحد ذاته، وإنما الحق الذي يحصل عليه الرجل بكل سهولة، بينما لا تملكه الأم مهما فعلت.
***
وفقًا للعقلية السائدة، يُطلب من الأب أن يُنفق ويتحمل كل المسؤوليات المادية، ومن ثم لا يُسأل عن أي شيء آخر. لو تكرم بما هو أكثر من ذلك، فخير وبركة، ولكنه غير مسؤول عنها. الحق يُقال هناك أجيال جديدة من الآباء الذين لا يريدون أن يكونوا مجرد آلة للإنفاق، ولا يريدون أن يغيبوا فلا يُحس أحد بغيابهم، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي حد تتقبل الثقافة السائدة هذا الدور؟
بالطبع، هناك اختلافات مردها اختلاف البيئات والنشأة، ولكن تظل هناك أعداد كبيرة من الآباء الذين يسعون إلى القيام بدورهم كآباء حقيقيين، موجودين، متفاعلين، يرعون أطفالهم في المنزل وخارجه، يحضرون الحفلات المدرسية واجتماعات أولياء الأمور، ويتابعون سلوكيات أبنائهم عن كثب، ويقومون بما يجب أن يقوموا به في الوضع الطبيعي أساسًا، ولكنهم لا يسلمون من نظرات وتعليقات وتنمر وانتقاص من "رجولتهم" لأنها ببساطة ليست سامة بما يكفي، وهذا رأيي الشخصي.
لو كانوا يتقيدون بالصورة التقليدية، التي لا أخجل من وصفها بـ"الرجولة السامة"، لما امتعض أحد سوى قلة من النسويات وقلة من المحترمين من الجنسين وأصحاب العقول النقدية. بيد أنهم لو تصرفوا بمسؤولية حقيقية، لسمعوا تعليقات من قبيل "وأنت ليش بتنام بنفس الغرفة، ما تروح تنام في غرفة ثانية، ولا خايف هههههه" (نعم، مضحكة جدًا هذه الإشارة إلى نوم الأب في نفس الغرفة مع طفل رضيع لم يعرف الفرق بين الليل والنهار بعد). ولو طلب مغادرة لحضور حفل انتقال ابنته من الصف الرابع إلى الخامس، لاستغرب رب العمل وكثيرون وتساءلوا "ليش تروح؟ مش أمهم رايحة"؟ نعم، ما الفائدة التي يجنيها الطفل من حضور والده؟ لن يؤسس هذا الحضور لعلاقة أقوى، ولن يشعره بالحب والتقدير والأمان، وحتى وإن كان الأمر كذلك، فما الحاجة لكل هذه الأمور طالما أنك دفعت رسوم المدرسة؟ ألم تسمع، أيها الأب، بالآلاف من الآباء الذين تغربوا فقامت الأم بدور الاثنين؟ تصرف كمغترب وأنت على بعد كيلومترات من المدرسة، أين المشكلة؟
هكذا يجد الأب نفسه، هو الآخر وإن كان بدرجات متفاوتة، مضطرًا لتبرير خياراته وتفضيلاته، وكأنه يفعل أمرًا مذمومًا، مع أن التجربة والدراسات وكل شيء يثبت أن الطفل يحتاج لوالده تمامًا مثلما يحتاج لوالدته. قد يجادل البعض بأن أصحاب العمل لا يرحمون، لا رجلًا ولا امرأة، وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكنني أكاد أجزم بأنهم لن يستغربوا طلب الأم للمغادرة لمثل هذه الأسباب (بغض النظر إن هم وافقوا عليها أم لا)، وسيجدون نفس الطلب من الأب مثارًا للاستغراب والانتقاد، خصوصًا وأن نسبة لا بأس بها منهم يفضلون توظيف الرجال، باعترافهم هم، على اعتبار أنهم متفرغون لعملهم بخلاف النساء اللواتي يصدعن رؤوسهم بكثرة المغادرات لرعاية طفل مريض أو تدريس الأطفال تحضيرًا للامتحانات النهائية أو غير ذلك.
لهذه الأسباب مجتمعة، أعتقد أن الأب (المسؤول بالمعنى الحقيقي) والأم كلاهما يخوضان معركة حقيقية إن هما أرادا تجاوز الدور التقليدي لكل منهما، وإن كانت معارك النساء أكثر تعقيدًا. وعليه، هذا ليس تصفيقًا لمن يقوم بواجبه، ولكن الأمر ينطوي على الحاجة لفهم السياق والمعركة، فالمرأة التي تتقلد منصبًا سياسيًا في مجتمعٍ تشارك فيه النساء بكل مناحي الحياة ليست كتلك التي ترأس بلدية في منطقة لا يُسمح فيها للمرأة بالخروج والاختلاط بالناس. آمل أن أكون قد أوضحت أهمية السياق، وهذه دعوة لفهمه، لا قبوله والتعايش معه، ودعوة لتغيير كل ما يعيق الاثنين في طريقهما، من معتقدات مجتمعية إلى قوانين عفا عليها الزمن.
الآن تنبهت إلى أن زوجي قد يكون غريبًا عن السائد وفق المواصفات المتعارف عليها للآباء والمذكورة في النشرة!