كانت مجرد فكرة في حوار عابر في بداية هذا العام مع زملاء وأصدقاء من الهيئة اليسوعية لخدمة اللاجئين في الأردن: هل تعتقدون أن بإمكاننا تيسير ورشة للكتابة ندعو إليها مجموعة من اللاجئين واللاجئات المقيمين في الأردن والراغبين بتعلم أساسيات الكتابة؟
شدّدت على أنها مُوجهة للمبتدئين، فليست لدي ثقة أكبر بقدراتي. أعلم أنني قد لا أضيف لمن هم في مستوى متقدم جدًا، ولكنني أثق بقدرتي على مساعدة المبتدئين في هذا العالم، على تعليمهم أساسيات التعبير عن أنفسهم من خلال الكتابة، على مساعدتهم في محاولة تجنب كل ما هو إنشائي والاقتراب من المُعاش، والحقيقي والذي يلمس عقل ووجدان القارئ.
فكرنا سويًا، وضعنا خطة مبدئية، ونشرنا الإعلان الذي لم أتوقع أبدًا أن يستقطب هذا العدد من المتقدمين، خصوصًا وأن لدي تجارب سابقة غير مكتملة، مرة بسبب الكورونا، ومرة بسبب معايير أعتبرها غير عادلة لاختيار المشاركين. بيد أن المختلف هذه المرة أنني عملت مع مؤسسة لها خبرة طويلة في تيسير الورش، ولديها قاعدة واسعة في المجتمع الذي نسعى إلى استهدافه، والأهم من ذلك، أننا بالفعل بدأنا ونحن نعي بأننا نُجرّب، أي لا بأس بالفشل ولا حاجة للكمال بأي حال من الأحوال.
هكذا اخترنا المجموعة، وبدأنا بعقد لقاءات أسبوعية عن بُعد، نظرًا لإقامتي في القاهرة. يجب أن أعترف أنني أمقت كل ما يُعقد عن بُعد. أنا، شخصيًا، لا أستطيع أن أتعلم عن بُعد، فمثل هذه اللقاءات في السابق كانت تشعرني بأنني قادرة على استغلال هذا الوقت للاستماع وقضاء بعض المهام الأخرى طالما أن الكاميرا غير إلزامية، فتجدني أفتح رابط اللقاء، وأستمع إلى ما يُقال، بينما أفتح عشرات الروابط الأخرى لإنهاء مهام عالقة أو حتى حذف ملفات أو صور لم أعد بحاجتها. كنت أعتقد أنني أستمع إلى ما يُقال، ولكن الحقيقة أنني لم أمنحه حقه من التركيز، ليختفي بعد إنهاء الجلسة كأنه لم يُذكر يومًا على مسامعي. بيد أنني لم أملك خيارًا آخر في هذه الحالة، فإما أن نبدأ عن بُعد وإما لا نبدأ.
***
خصّصنا يوم الخميس لهذه اللقاءات. بدأنا بالتعرف على المشاركين، بشرح الأساسيات، بالنقاش حول خلفياتهم، باقتراح أفكار لقصص يرغبون في كتابتها. على الرغم من انقطاع الانترنت المتكرر، وحاجتي لتغيير المكان الذي أجلس فيه أكثر من مرة لالتقاط تغطية أفضل، إلا أنني استمتعت بكل دقيقة في هذا التدريب.
على مدار أكثر من 15 سنة، التقيت بمئات اللاجئين واللاجئات من دول مختلفة، وكتبت قصصًا كثيرة، ولكن هذه كانت أول مرة أحفزهم فيها على إخراج ما بداخلهم على الورق. لم تكُن لقاءات صحفية أو بحثية، أفرغها وأكتب من بعدها، ولكنها كانت حوارات إنسانية دافئة أُيسرها ومن ثم أجلس لأشاهد النتيجة التي يكتبونها هم. هكذا بدأنا بالسفر، الحقيقي، إلى بلدان لم نزرها قبل ذلك، تعرفنا على قرى لم نكُن نعرف أنها موجودة، وسمعنا عن عادات لم نعرف معناها الحقيقي قبل ذلك، وعرفنا عن تجارب نساء لم يملكن الوقت أو ترف الحديث عنها علنًا في السابق.
كلما كتب أحدهم وصفًا عامًا، شجعناه على تركه جانبًا واختيار وصف أدق، مشهد واحد، مكان واحد، ذكرى واحدة، تفاصيل أكثر. كلما قالوا إن الرحيل كان صعبًا، شجعناهم على تجنب وصف الانتقال بـ"الصعب"، وشرح ما يجعله صعبًا بدلًا من ذلك، لنكتشف العلاقة مع الجدات والأجداد التي كانت على وشك الانقطاع، والتسميات المختلفة لمن يشتاقون لهم في بلدانهم الأم فمنهم من يسمي الجدة "حبوبة" ومنهم من يناديها "ديدة"، وتفاصيل البيوت التي بُنيت بكفاح الآباء ولكنها لم تعُد آمنة، وتعقيدات سفر النساء اليمنيات من دون ولي أمر حتى وإن كانت البلاد في حالة حرب، والتجارب التي حدثت قبل عشرات السنين ولكن آثارها تظهر في نفوس المشاركين حتى هذا اليوم، والكثير ممّا يحمله المشاركون من بلدانهم الأم التي لم يزرها بعضهم قط مثل الكتب والنباتات والكثير من الحكايات.
***
عندما حان وقت مراجعة المسودات الأولى، كنت قد وصلت إلى عمّان، فاقترحنا أن نعقد الجلسة وجهًا لوجه. استشعرنا جميعًا طاقة مختلفة تمامًا بعيدًا عن الشاشات، رأينا الوجوه لأول مرة، فالكاميرا كانت مطفأة طيلة الشهور السابقة، وجلسنا كأصدقاء قدامى نعرف التجارب الفاصلة في حيوات كل منا لكثرة ما تحدثنا عنها من وراء الشاشات، التي ما زلت أمقتها على أية حال.
هكذا حان وقت التعليقات، وهو أمر ليس سهلًا على أي كاتب أو أي شخص يرغب في الكتابة. إنها فعل يحتاج إلى جرأة كبيرة، وصدر رحب يتقبل "قتل" أفكاره أمام عينيه. أعترف بأنني لم أبدأ بتقبل تعليقات المحررين إلا قبل فترة قصيرة جدًا، بينما كنت في السابق أتحسّس منها، أتذمر منهم في سرّي، أقسم أنهم لا يفهمون ما أعنيه وأنهم يريدون أن يخلقوا مني نسخة أخرى عمّا يدور في ذهنهم هم، أفكر أن كل كلمة ضرورية حتى وإن لم يعوا هم أهميتها، وأتبادل النميمة عنهم مع الأصدقاء المقربين. ولكنني نضجت إلى حدٍ ما، فأصبحت أتقبلها بسهولة أكبر، لا أمانع بتغيير جملة أو موقع فقرة إن كان هذا ما نحتاجه لنخرج النص إلى النور، ومن ثم اكتشفت أن المحرر قد يكون بالفعل على حق، وأنني لست عبقرية كما أحب أن أعتقد. هناك دائمًا طريقة أفضل لرواية القصة، وقد يكون لصاحب العين الأخرى نظرة أعمق من نظرتي المنغمسة في زاوية واحدة.
حين جاء دوري لممارسة هذا الدور، حرصت على أن أذكر نفسي بمقامي، لم أنل جائزة نوبل في الأدب بعد، وأعرف مرارة الرفض وقسوة من لا يرى أي قيمة في نص مختلف عمّا عهده ولكنه ما يزال يستحق أن يرى النور. الحقيقة أن النصوص كانت بالفعل جميلة، ودافئة، ومليئة بالعاطفة، ولم تكُن تستدعي الكثير من جرائم القتل التي كنت أخشاها في السابق وأحاول تجنيبهم إياها. والحقيقة الأخرى أنهم كانوا أكثر ثباتًا مني، ولم أشعر بأن أحدًا منهم امتعض من أي تعليق، سواء صدر مني أو من المشاركين الآخرين.
هذا نص جميل، ولكن هذه عبارة مكررة وتقدم الخلاصة مباشرة إلى القارئ بدلًا من أن يصل إليها بنفسه. لا تكوني مباشرة بهذه الطريقة، لكي لا تدفعي القارئ إلى الملل. أما هذا النص، فهو مباشر بالفعل، ولكنه دافئ ولا تغيري فيه شيئًا لأن روح النص وصلت بهذه الطريقة. ليست هناك قاعدة واحدة. أحيانًا نتجنب المباشر، وأحيانًا نرحب به إذا كان يجسد روح النص.
هكذا أمضينا ساعات طويلة نراجع النصوص، ونتعرف على خلفياتنا مرة أخرى. خرجت من الجلسة بشعور عظيم، كمن يُعيد اكتشاف المتعة في الكتابة في زمنٍ قد لا يعيرها اهتمامًا حقيقيًا، ويرى فيها ترفًا وسط كل الأحداث الجارية.
***
في إحدى المحاضرات، سألني أحدهم إن كان يستطيع الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. قلت إن هناك كتابًا يستعينون به بالفعل لكتابة مسودات، ولكنني طلبت منهم ألا يستعينوا بها إطلاقًا. قلت إننا ما زلنا نتعلم هذه المهارة، وإن جزءًا كبيرًا من الكتابة يكمن في ترتيب الأفكار، وتنقيحها وكتابة المسودات التي قد تكون سيئة وتحسينها، ولا نرغب أبدًا في أن يقوم أي شخص أو آلة بهذه المهمة نيابةً عنا، فيحرمنا فرصة تعلم المهارة وفرصة اختبار متعة المخاض هذه.
بعد أن قرأنا المسودات معًا، ورأينا ما عشناه في هذا المشوار القصير، أثق بأن الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يريح من يعمل في هذا المجال يوميًا، ربما يوفر الوقت والعناء، ولكنه أبدًا لن يكتب تاريخنا، وسيرنا الذاتية كما نكتبها نحن. قد يعرف عنا أكثر ممّا ينبغي، ولكنه أبدًا لن يعرف أن والدة أحدنا ترش المياه على حفنة تراب مأخوذة من بحرٍ في بلدٍ بعيد لتشم رائحة بلادها. شكرًا للشاشات التي سهلت لنا بدء هذه الورشة، وشكرًا للذكاء الاصطناعي الذي قد يُصحّح خطأ لغويًا أو نحويًا بسيطًا، نقدر لهذه الأدوات مساهماتها البسيطة في الورشة، ولكنها لن تستطيع أبدًا أن تخلق طاقة كتلك التي شعرنا بها في غرفة الاجتماعات.