قبل سنوات طويلة، ذهبت إلى دار السينما في عمّان لأشاهد فيلمًا أردنيًا، وكان هذا، بحد ذاته، أمرًا يستحق الاحتفاء في حينه، إذ كادت الساحة تخلو من أي عمل ينطق بأي من اللهجات الأردنية المتنوعة ويروي قصة من قصصنا.
لم يكُن فيلم "إن شاء الله استفدت" هو الأول بالتأكيد، ولكنه كان مميزًا بالنسبة لي لأكثر من سبب. جاء الفيلم في فترة كنت أتوق فيها إلى حضور شيء، أي شيء، يروي قصة تشبه الواقع الذي نعايشه يوميًا، فروى قصة حقيقية وأردنية بكل تفاصيلها وأنا من محبي ما يستند إلى الواقع، ولا أشاهد أي شيء لا أستطيع ربطه بما يحدث من حولي، وهذا تفضيل شخصي على أية حال لا أفرضه على جهات الإنتاج كما يود البعض لو كان بمقدوره أن يفعل. كما احتوى الفيلم على نكات بارعة في استخدام حس الفكاهة الأردني، الموجود بالمناسبة، ولكنه لم يأخذ حقه ولم يفلح في تغيير السمعة التي لصقت بالأردنيين لعقود طويلة. هي فكاهة من نوع آخر، ربما تكون أقرب إلى الكوميديا السوداء، التي تُضحك المتفرج لشدة ما هي مزرية وقد لا تضحكه إن لم يكُن معتادًا عليها في محيطه.
اليوم، لم يعُد ظهور فيلم أردني أمرًا نادر الحدوث كما كان، فهناك صناعة آخذة في الصعود، رغم أنها صناعة غير حرة بما يكفي، وما تزال مجبرة على إيجاد متنفس لها وسط القيود من السلطات من جهة ومن المجتمع الذي لم يعتد على رؤية نفسه في المرآة من جهةٍ أخرى. بعد كل هذه السنوات، جاء فيلم "إن شاء الله ولد"، الذي يطرح قضية شائكة لا يجرؤ كثيرون على الاقتراب منها.
خلدت البطلة، وهي أم لطفلة واحدة، إلى النوم ذات يوم، فاستيقظت لتجد زوجها قد فارق الحياة في سريرهما. وفي اليوم التالي، استيقظت لتجد شقيق زوجها يطالب بحقه في ميراث أخيه، الذي لم يُنجب ابنًا يرثه ويحجب "حق" العم، فراح يقنعها بضرورة بيع المنزل الذي تقيم فيه كونه من أملاك الزوج المتوفى. حاولت الزوجة أن تثبت مساهمتها المالية في المنزل، ولكنها لم تجد سوى ورقة لا تحمل الإمضاءات اللازمة لإثبات صحة أقوالها. هكذا تخوض صراعًا لم تكن قد استعدت له لمحاولة الحفاظ على مكانٍ يأويها، هي وابنتها.
***
إلى جانب القصة الجريئة، سُعدت بمشاهدة "فريال"، جارتها الثرثارة التي تعتني بابنتها أثناء غيابها في العمل. فريال هي سيرين حليلة، وهي أول مديرة عملت معها في حياتي المهنية وما زلت أتعاون معها إلى يومنا هذا. عرفتها مترجمة مخضرمة، لها اهتمامات فنية متنوعة، ولكن لم يسبق لي أن رأيتها على الشاشة. راودني الشك للوهلة الأولى، ولكنني تأكدت أنها هي، فأرسلت لها رسالة على الفور. لمسني ردها بطريقة غريبة، إذ قالت ما معناه "نعم صحيح، وجدت نفسي أتعثر بمهنة جديدة في وقتٍ متأخر من العمر".
جاء الرد في وقتٍ أطرح فيه الكثير من الأسئلة، البعيدة عن مسيرة سيرين والقريبة من مسيرتي الشخصية، من قبيل: هل يمكن أن يبدأ المرء بمسيرة مهنية جديدة بعد أن أمضى حوالي عقدين في المهنة ذاتها؟ هل يملك الجهد البدني والذهني المطلوب للبدء من جديد؟ وهل يستمتع بنجاحه فيها أم إن طعم النجاح مختلف في سنوات الشباب الأولى؟ هل الخوف من ردة فعل المحيطين أمر يستحق التفكير أساسًا؟
لو وجهت هذه الأسئلة لمدربي التنمية البشرية، لأجابوا، على الأرجح، بأن عليك أن تتبع قلبك وألا تهتم بما يقوله الناس من حولك، ولكن الواقع أعقد من ذلك، وتظل هذه الأسئلة تؤرقني حتى وإن أقدمت على بعض هذه الأفعال. سبق لي أن طرقت أبوابًا في مجالات مختلفة، فسعيت وراء شغفي في الكتابة والسفر واليوغا وغيرها. وحلمت بكتابة الكتب الحقيقية والخيالية والأفلام والمسلسلات وبإدارة مطعم أو مشروع تجاري على شاطئ ما يُدر دخلًا دون الحاجة لبذل مجهود ذهني كبير، وبتدريس العربية المحكية في بقاع العالم، وبتعلم الزراعة والعيش في الريف، والقائمة تطول.
سعيت وراء الممكن منها، أجلت ما هو بعيد المنال وتخليت عما لم يعُد يعنيني. بيد أنني كثيرًا ما ترددت، ونادرًا ما شعرت بالأريحية الكاملة، إذ إن هناك فكرة عامة تعيب على المرء كثرة الاهتمامات، وتنادي بالتخصص، وخلق الهوية المميزة وتحذر من ضياع هذه الهوية، فلا أحد يريد أن يبدو كمن يفعل كل شيء وينتهي به الأمر بألا يفعل شيئًا على الإطلاق. حتى في عالم الكتابة، أحب أن أجرب قلمي في أنواع مختلفة منها، وأتردد، ومن ثم أجد مواساتي في السير الذاتية لكتاب أحبهم وأحترمهم، تنقلوا بين كل الأنواع بخفة ولا يبدو أنهم اكترثوا بالـbranding كثيرًا، ومنهم الكاتب الجميل بلال فضل.
كنت أمدح كتاباته وواحدة من رواياته أمام أحدهم، فسخر منه وقال "مهما كتب، لا تنسي أنه كتب حاحة وتفاحة" في إشارة إلى فيلم مصري يصفه المتحدث على أنه "تافه". الحقيقة أن المتحدث حسب نفسه يذم الكاتب، ولكنه في الواقع كان مدحًا من وجهة نظري، هذه جرأة كبيرة لا يملكها كثيرون، فبلال فضل أنتج الكثير والمتنوع، كتب الأفلام والمسلسلات ومقالات الرأي والروايات، كتب الساخر والجاد، التافه والرصين، وحتى الأعمال التي تنطوي على "بذاءة" تليق بالواقع. هذا التنوع لم يمنعه من الإنتاج بغزارة، وهذا بحد ذاته مدعاة للإعجاب ويدفع بأمثالي للتجربة.
أخبرتني سيرين أنها لم تشغل نفسها بالتفكير إن كانت هذه الخطوة ستؤدي إلى تغيير مسارها المهني أم إنها مجرد تجربة تحدث لمرة واحدة فقط. تعي بأن تغيير المسار بالكامل يتطلب تفرغًا ليست مستعدة له، ولكن هذا لا يمنعها من الاستعداد لقبول أدوار أخرى في المستقبل في أفلام مستقلة، كالفيلم المذكور، تخلق مساحة للممثلين غير المحترفين، وترحب بهم. إنه، بعبارة أخرى، اهتمام آخر يُضاف إلى قائمة اهتماماتها دون أن تشغل نفسها بأي أسئلة أخرى.
***
بالعودة إلى موضوع الفيلم، تقول سيرين أنها أحبت القصة لأنها حقيقية جدًا، تجدها في أوساط وعائلات كثيرة، قصة عابرة للطبقات تعاني فيها النساء من فقدان حقوقهن تارة بفعل القانون وتارة أخرى بسبب سذاجتهن. ربما لم يُحدث الضجة المتوقعة على موضوعٍ حساسٍ كهذا لأنه لم يُشيطن أحدًا برأيها، فلم يُظهر العم كشخص شرير بالضرورة يرغب بإيذاء زوجة أخيه، وإنما كشخص يعتقد بالفعل أن هذا حقه الطبيعي. ولم يكتفِ بإظهار الظلم الذي تتعرض له النساء في عائلة مسلمة، بل تناوله في عائلة مسيحية أيضًا، ما يؤكد على أن هذا الظلم غير مرتبط حصرًا بالدين، ويعالج القضية بحساسية عالية، على حد تعبيرها.
شخصيًا، أتمنى أن يُحدث الفيلم الضجة التي تؤدي إلى مناقشة القضية بعقلانية، بدلًا من الردود التي شهدناها على أفلام أردنية أخرى، وأتمنى أن نجد في هذه المساحة متسعًا لرواية كل القصص التي نرغب في مشاركتها بقدرٍ أقل بكثير من الخوف والتردد!
استمتعت بالقراءة حقاااا 🌸
فيلم حلو جداً ومقالك كذلك 🌹